“وطبعاً أبداً ما مننسى، أمنا الحنونة فرنسا”. اشتهرت هذه العبارة في التسعينيات، حين أطلقها برنامج كوميدي لبناني بمناسبة كأس العالم الذي استضافته فرنسا.
لفرنسا في لبنان اسم مستعار هو “الأم الحنون”، يقال من باب السخرية حيناً، ومن باب الإشادة حيناً آخر، تبعاً لخلفيات القائل. فالعلاقة مع فرنسا إشكالية ومتشعّبة، ولم تحظَ يوماً بإجماع اللبنانيين.
في هذا السياق، لم تكن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العاجلة إلى بيروت أمس، غريبة، بل “خطوة طبيعية” نظراً لتعاطي فرنسا مع لبنان كأنه “حصتها” في الإقليم.
هذه ليست المرّة الأولى التي يهرع فيها رئيس فرنسي لنجدة لبنان. فبعد التفجير الذي أودى بحياة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري عام 2005، ركب جاك شيراك طيارته، وحطّ في بيروت لمواساة العائلة. وعند وفاة شيراك العام الماضي، ساد الحداد الإعلام اللبناني المحلّي، في استذكار “صديق لبنان الكبير”.
وخلال ولايته، رعى شيراك مؤتمرات باريس 1 و2 عام 2001 وباريس 3 عام 2007، لدعم لبنان اقتصادياً، ونجح بجمع مليارات الدولارات من الجهات المانحة.
وفي عام 2018، رعت فرنسا من جديد مؤتمر “سيدر” لدعم لبنان، بعد فشل الدولة اللبنانية بإنجاز الإصلاحات الموعودة في مؤتمرات باريس الثلاثة، وجمع أكثر من 12 مليار دولار، لم تفلح في تجنيب البلاد الأزمة المالية الخانقة التي تشهدها حالياً.
ويزيد اهتمام فرنسا بلبنان تبعاً لأجندة الرئيس، لكنّ الثابت أنّ الاهتمام كبير. ففي عام 2008، وبعد فترة قصيرة من انتخابه رئيساً، حضر نيكولا ساركوزي إلى بيروت، ومعه وفد كبير من وزراء ورؤساء أحزاب فرنسية. جاء ذلك خلال لحظة حساسة في السياسة اللبنانية، بعد الاتفاق على انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.
وفي حالة ماكرون، فقد زار بيروت قبل انتخابه، والتقى بممثلين عن المجتمع المدني، وأبدى إعجابه بالأكل اللبناني. وبعد انتخابه، لم يهنأ له بال من جهة “بلاد الأرز”. ففي العام 2017، بعد أزمة احتجاز سعد الحريري في السعودية، كان للوساطة الفرنسيّة دور في تحريره، وزار الحريري قصر الإليزيه مع عائلته فور الإفراج عنه.
ليس غريباً أن يبادر آلاف اللبنانيين لتوقيع عريضة تطالب “بعودة الانتداب” الفرنسي، فهناك جزء من الشعب اللبناني يشعر بارتباط ثقافي وهوياتي مع الثقافة الفرنسية، ويعدّ ذلك من أوجه الخلاف التي أخذت مناحٍ دامية بين اللبنانيين.
فمن الانقسامات التي مهّدت للحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، الخلاف على هوية لبنان، إذ كان اليمين اللبناني ينادي بفينيقيّته، فيما كان اليسار والتيارات القومية العروبية تنادي بعروبته. أحد أوجه تلك الهويّة الفينيقية التماهي مع الثقافة الفرنسيّة، والاعتداد بها، مما كان يستفز الطرف الآخر ذي الولاءات العربية.
وبالطبع، كان لتلك الانقسامات أرضيّة طائفيّة، مع اعتبار السياسيين الموارنة خصوصاً، والمسيحيين عموماً، أنّهم يدينون بالولاء للغرب، وفي مقدّمته فرنسا. وفي أدبيّات التيارات الطائفية المسيحية، فإنّ فرنسا ستهبّ دوماً لحماية المسيحيين في لبنان من أيّ خطر وجودي.
وتشير المصادر التاريخية إلى أنّ دعم فرنسا للبنان بدأ منذ القرن الثالث عشر، وقد أخذت فرنسا على عاتقها حماية الكاثوليك في لبنان في معاهدة وقّعت 1535، وتمتدّ المراسلات بين الملوك الفرنسيين والبطاركة منذ ذلك العهد.
وفي العام 1860، تدخلت فرنسا مباشرة لحماية الموارنة بحملة عسكرية كبيرة، خلال المواجهات الطائفية الدامية بين الدروز والموارنة في جبل لبنان.
وبعد الحرب العالمية الأولى، ومع تفكّك الدولة العثمانية، اعترفت الدول المنتصرة بحقّ فرنسا بأخذ لبنان حصةً لها، بعد تقسيم تركة الإمبراطورية في المنطقة بين الاستعمارين الفرنسي والإنكليزي، وفق اتفاقية سايكس بيكو.
هكذا، كانت فرنسا هي من خلقت دولة لبنان الكبير، ايفاءً بوعدها للبطريرك الماروني الياس الحويك، في سبتمبر/ أيلول 1920، وهي المناسبة التي يعود ماكرون إلى لبنان الشهر القادم للاحتفال بها.
استمرّ الانتداب الفرنسي على لبنان حتى نيله استقلاله عام 1943، ولم يغادر آخر عسكريّ الأراضي اللبنانية حتى عام 1946. لكن قوانين لبنانية نافذة كثيرة، تعود لذلك العهد، ومنها قانون الجنسية الذي يحرم النساء اللبنانيات من منح جنسيّتهنّ لأولادهنّ.
وقد قاوم اللبنانيون الاستعمار الفرنسي، وكان جزء كبير منهم يرفضونه منذ بدايته. وبدأت فكرة الاستقلال تتبلور مع كتابة ما سمي بالميثاق الوطني اللبناني، والمطالبات بإعادة صياغة الدستور.
شهدت فترة الانتداب مراحل عنيفة، وتشير المصادر التاريخية إلى مواجهات عنيفة، أدّت إلى قتل عدد من اللبنانيين على يد الجنود الفرنسيين، وفي مدن مثل طرابلس وصيدا نصب تذكارية لهم.
وقبل أن يكون الانتداب واقعاً عسكرياً، كانت الثقافة الفرنسية عاملاً مؤثراً في لبنان، منذ القرن التاسع عشر، مع المدارس الإرسالية الفرنسية التي كان لها دور مهمّ، ولا يزال، في صياغة نخبة من المتعلّمين والمثقفين.
وحتى اليوم، يعدّ المعهد الفرنسي مركزاً ثقافياً أساسياً في العاصمة اللبنانية، يتولّى تسهيل معاملات الطلاب اللبنانيين الراغبين بمتابعة تعليمهم في فرنسا، وهم كثر. كما يحتضن المعهد أحداثاً ثقافية عدّة، ويموّل أعمالاً فنية ومسرحيّات، ويعدّ من أبرز الداعمين للنشاط الفني على الساحة المحليّة.
والمدارس الفرنكوفوية في لبنان، تدار غالباً من رهبنات تابعة للكنائس الكاثوليكيّة، وبعض أشهرها مدارس علمانيّة. ويتعلّم التلاميذ اللبنانيون اللغة الفرنسية كأنها لغتهم الأم الثانية، ويقدّم جزء كبير منهم الامتحانات الرسميّة في مختلف المواد باللغة الفرنسيّة.
كما يشتهر أدباء لبنانيون كثر بالكتابة اللغة الفرنسيّة، وبعضهم له وزن كبير على صعيد الأدب الفرنكوفوني عالمياً، من بينهم الشاعر اللبناني الكبير صلاح ستيتية الذي توفي قبل أشهر. ومن بينهم أيضاً الروائي الشهير أمين معلوف، وهو أوّل لبناني ينتخب في عضوية أكاديمية اللغة الفرنسية.
وتعدّ باريس محجاً لآلاف الطلاب اللبنانيين سنوياً، كما تعيش فيها جالية لبنانية كبيرة، وكذلك يعيش آلاف الفرنسيين في لبنان. وتدعم فرنسا قوات “اليونيفل” التابعة للأمم المتحدة بأكثر من 600 عنصر، كما تعدّ من أبرز الجهات المستوردة من لبنان.