كسر الصمت: قصص تحرش تُروى للمرة الأولى

صورة لرجل يصرخ في امرأة

Getty Images

فيلوميلا.. أميرة أثينية في الأساطير الإغريقية. اغتصبها زوج أختها الملك تيريوس، الذي قطع لسانها حتى لا تتمكن من إفشاء فعله. إلا أن الأميرة تمكنت – حسب الأسطورة – من الانتقام من مغتصبها، لتتحول بعدها إلى عندليب مُغرد، تشدو ألحانه بقصة فيلوميلا.

بعيدا عن الأساطير، شهدنا مؤخرا موجة على منصات التواصل الاجتماعي في العالم العربي، كسر فيها العديد من الأشخاص حاجز الصمت، وشاركوا مواقف التحرش التي تعرضوا لها. وبما أن “التغريد” في حاضرنا اتخذ شكلا آخر على تويتر، إلا أنه لا يزال يجسد نوعا من أنواع الانتقام، أو خطوة نحو استرداد ما حاول المتحرش سلبه.

ومن هنا، نسرد بعض هذه القصص التي قرر أصحابها مشاركتها للمرة الأولى.

الفارس

كأننا في مشهد يجسد إحدى “كليشيهات” الروايات الرومانسية، كانت سارة (اسم مستعار) تلعب أمام منزلها حين ظهر “فارس” على حصان جميل، عارضا عليها الركوب معه والذهاب في جولة سريعة. وبحكم حبها الكبير للأحصنة، الذي استمر ليومنا هذا، وافقت. لكن لم يكن الشاب فارسا، ولا كان المشهد رومانسيا.

أحسّت سارة بيد الشاب – الذي كان يعمل “سائسا للخيل” في المنطقة – وهو يلمس أعلى قدمها حين سألها: “هل تحبين الأحصنة؟ أستطيع أن آخذك إلى مكان رائع مليء بالأحصنة الجميلة”.

تذكرت الطفلة صوت والدتها وهي تنبهها: “إياكِ أن يقوم شخص غريب بلمسكِ”. وبهدوء، طلبت ذات الستة أعوام من الشاب أن يقوم بإنزالها. وبمجرد أن فعل، ركضت بكل ما أوتيت من قوة نحو المنزل، لتلاحظ أنه يهرب على جواده.

مرة أخرى، تعرضت سارة – وهي الآن ثلاثينية وأم لطفلين – لحادثة تحرش أثناء زيارتها لبلد عربي مجاور، حين قرر رجل أن يقفز من الحافلة المتحركة ويقترب من وجهها قائلا: “مستعد آخد فيكي تلت سنين حبس”.

لم تفهم سارة معنى ما قيل لها، إلا أن صديقتها التي كانت ترافقها حينها وضحت أن البلاد قامت حديثا بسن قانون يُجرّم التحرش بحبس الجاني ثلاث سنوات. تجلّى لسارة – التي تمتهن المحاماة – أنه مع وجود القوانين المفروضة ضد هذه الأفعال، إلا أنها ليست بالضرورة الرادع الكافي.

وفي محاولة للرد على المبررات العديدة التي اعتدن النساء على سماعها، أكدت سارة أنها كانت ترتدي عباءة طويلة. وجعلنا ذلك نتطرق في محادثتنا لأساليب التبرير – وأحيانا الدفاع عن – أفعال المتحرش في مجتمعاتنا، كلباس المرأة أو أوقات خروجها للشارع أو “الكبت” المجتمعي الذي يطغى على الأفراد، وغيرها من المبررات اللانهائية، التي يُراد منها – سواء بقصد أو من غير قصد – حصر مسؤولية التحرش على المرأة عوضا عن المتحرش.

الموقف الأخير الذي واجهته سارة في بلدها الأم كان هو الأكثر غرابة بالنسبة لها، إذ أنها كانت في شهرها التاسع من الحمل، وكأغلب النساء في هذه الفترة كانت تشعر بتعب وإجهاد كبيرين.

“يسعدلي اللي نفخك!” كانت هذه الجملة التي وقعت على مسامعها أثناء مرورها من أمام إحدى محلات بيع الملابس في عمّان.

وعند سؤال سارة عن أسباب عدم تقدمها بشكوى حينها، أجابت: “وشو الشكوى كانت حتسوي؟” وفسرت جوابها بأنه “في العادة، وبحسب ما أشهدُ في المحاكم، إذا لم يتعدَ التحرش الحاجز اللفظي، يتم التنازل عن أغلب الشكاوى”. لذلك، فضلت سارة ألا تُدخل ذويها “في متاهات”، كونها من عائلة معروفة في الأردن، واكتفت بـ “بهدلة” المتحرش.

وتُذكِر سارة أنه “من غير العدل أن يكون عاتق الحرص والمسؤولية محصورا جندريا على المرأة، سواء كطفلة أو كأم”، إلا أنها لا تقلل من أهمية ذلك الحرص، إذ كان كلام والدتها كافيا لعدم انخداعها بوهم “الفارس”.

هل كان تحرشا؟

“العجيب في مواقف التحرش أنها تُحفر في الذاكرة… وهناك تفاصيل لا تُنسى”.

هكذا استهل ماجد، اسم مستعار لثلاثيني مقيم في السعودية، رسالته التي شرح فيها تفاصيل المواقف التي تعرض فيها للتحرش، والتي فضل مشاركتها كتابيا. إحدى هذه المواقف بدأت عندما اضطر ماجد لمراجعة الطبيب بسبب “مشكلة معينة” أراد تشخيصها، ليتفاجأ بشعور الامتهان الذي تملكه أثناء تلك الزيارة.

“احتجت أن أقوم بفحص للبروستاتا، لكن لم أكن أتخيل أن أسلوب تعامل الدكتور سيجعلني أشعر بهذا القدر من الانتهاك”.

لم يُرد ماجد التعمق في المزيد من التفاصيل، لكنه لم يستطِع أن ينسى حالته عند انتهاء الفحص، ذاكرا “نظرة” زوجته له بعد خروجه من غرفة الطبيب حين سألته باستغراب: ‘مال وجهك أصفر هيك’؟”

يُدرك ماجد صعوبة تقبل العديد بأن ما حدث معه أثناء فحصه الطبي قابل للتصنيف تحت مظلة “التحرش”، لكنه يؤكد أن هذه الحادثة تسببت له بصدمة كبيرة تطلبت وقتا طويلا لتجاوز الضرر النفسي العميق الناتج عنها.

ويضيف: “كنت أظن أن طبيعة الفحص كانت على هذا الشكل. لكن بعد فترة، قمت بعمل فحص آخر، ولم أشعر بشيء من ذلك لأن الطبيب كان محترما وعاملني بلطف. أما الطبيب الأول، احتقرني وكأن فحصه أشبه بالاغتصاب. حتى بعد انتهائه من الفحص، أعطاني المناديل عشان أنظف حالي بطريقة سيئة، وكأني مذنب”.

وبحكم أن العدد الأكبر من الأشخاص اللذين يتعرضون للتحرش يفضلون السكوت لأسباب عديدة، منها الخوف والحيرة وحتى الشعور بالخزي، يستطيع المتحرش أن يجد بيئة تساعده على الاستمرار بفعله. لذلك، يرى ماجد أن في كسر الصمت خطوة أولى لإعادة قولبة المفاهيم السائدة عن التحرش، والتي تقوم بلوم الشخص أو الشكيك في صدقه أو التبرير للجاني والدفاع عنه.

ومن هنا، سرد ماجد موقفا تبين فيه أن مشاركة هذه الحوادث هي الخطوة الأولى نحو التجرد من سلطة “المنطقة الرمادية” التي تُغذي المتحرش وتسمح له بالاستفادة منها والاستمرار بفعله، فيقول: “قبل حوالي 12 عاما، اشتغلت بقناة تلفزيونية، وعمل شخص معنا وأظن أنه متزوج، كان لما يسلم يقعد ‘يلمس’ صدري وظهري وبطني بطريقة غريبة، وكان هذا يحصل أكثر لما أكون لحالي بالغرفة”.

وعند سؤالي عن سبب اختياره السكوت حينها أجاب: “كنت أتحاشاه لأنني في مكان عمل وصعب أتهمه بدون دليل كافي، خاصة أنه مواطن وأنا مقيم. لكن عندما قررت أن أتكلم عن الذي حدث، عرفت من زملاء آخرين أنه يفعل نفس الشيء مع البعض، وكان دخوله للقسم بالنسبة لنا كابوس، وما صدقنا أنه حصل تغيرات وبطل يجينا”.

مظاهرة ضد التحرشGetty Images

القلادة

لم يخطر ببال أسامة (اسم مستعار لرجل ثلاثيني) أن العلاقة التي خاضها عندما كان في سن السادسة عشرة مع معلمة الفن في المدرسة ستعود يوما ما لتطارد أفكاره. فكيف لتلك المشاعر التي أحس بها – ربما للمرة الأولى – أن تكون أي شي إلا حبا؟

ماذا عن النظرات المُسترقة؟ ومواعيد مرسم المدرسة؟ وزيارات المنزل السرية؟ كيف يمكن لكل هذه التجربة العميقة أن تكون مجرد وهم!

بدأت القصة تتكون ذات يوم عندما تمكنت معلمة أسامة من الاستفراد به، بحجة مساعدتها في نشاط مدرسي بعد ساعات الدوام، دون وجود أي رقيب أو شاهد عما سيحدث ويستمر لما قارب العامين.

كانت المبررات آنذاك تتوالى في تفكير أسامة: ماذا لو كانت المعلمة في الثالثة والثلاثين من عمرها؟ وماذا إن كانت متزوجة؟ وماذا إن كانت أما؟ المشاعر التي تجمعنا يعيش أشخاص طوال عمرهم – بل يموتون – دون تجربتها.

ويسرد لنا أسامة مثالا على ما فسره حبا حينها: “أذكر أنني كنت في مكتبها في يوم من الأيام، وصارحتها بإعجابي بزميلة لي في المدرسة، لتقوم فجأة بقلب المكتب رأسا على عقب”.

لكن بعد مرور السنين، وبعد اكتشاف مدى التأثير السلبي الذي تركته هذه التجربة داخله، أراد التصرف.

“ذهبتُ لمواجهة المعلمة، ودخلتُ مرسم الفن.. ولصدمتي، رأيتها ترتدي قلادة على شكل قلب، تجمع صورتينا، كنت قد أهديتها إياها في الماضي”.

وعندما سألتُه عن ردة فعله حينها أجاب: “لا شي.. عندما رأيت القلادة، ترددت قليلا، و تساءلت إن كانت أحبتني فعلا، فما كان مني إلا أن سلمت عليها وذهبت”.

بحكم أن المعلمة لا تزال على رأس عملها، اعتزم أسامة أن يقدم شكوى رسمية ضدها، وقرر أن يتخذ خطوة جريئة ويُهاتف إحدى المؤسسات الرسمية في البلاد (والتي رفض مشاركتها خوفا من خرق الخصوصية). وبعد أن قام أسامة بمشاركة التفاصيل مع موظف الخدمة المدنية، والذي سأله عن عمره عند وقوع الحادثة وعمره الآن. فوجيء أسامة بالرد الصادم من الموظف: “هي بالأربعين؟!” وتندر بأنها كبرت في السن وفقدت جمالها.

وبهذا الاستخفاف، تم انتهاء المكالمة والسماح للمعلمة – التي لا زالت ترتدي دليل إدانتها حول رقبتها – بالنجاة بفعلها.

سُمعة العائلة

لا تريد زينة (اسم مستعار لمعلمة ثلاثينية من فلسطين ( الخوض في الكثير من تفاصيل التجربة التي عاشتها حين كانت في سن الثانية عشرة من العمر، إذ من الصعب استذكار لحظاتٍ حرصت على دفنها طوال السنوات الماضية. لكن في الكثير من الأحيان، تنتصر تلك الذكريات مهما حاول الشخص طمسها، لتقوم بالتسلل لمخيلته، خصوصا إذا كانت مرتبطة بفرد من أفراد العائلة.

تروي لي زينة كيف كان خالها ينتظر الوقت الذي يخرج فيه أهلها من المنزل ليقوم بمطاردتها “من غرفة لغرفة” ليتحرش بها.

استمر الحال لأكثر من عام، إذ استغل الخال خوف زينة من ردة فعل والديها، وتطور الأمر إلى زيارات ليلية تسلل فيها إلى فراشها، فتقول: “كنت أكره الأوقات اللي كان يجي فيها وينام عنا، كان يضل يجي لعندي ويتحرش فيا بس يناموا أهلي ويلمسني في كل مكان”.

ترى زينة أنه لم يكن أمامها العديد من الخيارات، فالمتحرش خالها، و”سمعة العائلة” في جهة وسلامتها في جهة أخرى. لذلك، استطاع الخال أن ينجو بفعله دون عقاب.

أما زينة، التي تخصصت في مجال التعليم وتعمل الآن في حضانة، أخذت على عاتقها مهمة حماية الأطفال من أي موقف مشابه.

وفي مرة، تجسّد الأمر في تقديمها شكوى ضد أحد عاملي الحضانة بسبب محاولاته الدائمة لمحادثة الأطفال واستيقافهم جانبا بطريقة أشعرتها بأنها قد تُفضي إلى تحرش مستقبلي.

بالنسبة لزينة، “مش دائما عنا فرصة نغيّر اللي صار معنا في الماضي” لكنها تأبى أن تسمح لتلك الحادثة بالتأثير عليها “ولا حتى يوم واحد زيادة”.

أستاذ الدين

تذكُر آية خليل (اسمها الحقيقي)، مصرية-أمريكية، كيف كان الأستاذ يتخذ من مكتبه حاجزا يحاول من خلاله إخفاء أفعالٍ قامت وجوه وملامح الطالبات بإفشائها.

كانت لحظة تسميع النصوص هي اللحظة المكروهة عند فتيات الحضانة، فعندما يُنادى اسمك، تدرك أن أشد عقاب مدرسي ممكن لا يمكن أن يُقارن بما كان يحدث خلف ذلك المكتب.

تقول آية: “كنت أرى وجوه زميلاتي وعلمتُ حينها أن الذي كان يحدث لهن عند مكتبه هو نفسه الذي كان يحدث لي”.

قررت الطفلة ذات الخمس سنوات أن تخبر والديها عن لمس الأستاذ لهن بالصف. وعند سماع القصة، قام الأهل بالاتصال بزميلة لها، بغاية الاستقصاء عن عدد الفتيات اللواتي مررن بنفس التجربة، إلا أن أهل الزميلة قالوا إن ابنتهم لم تتعرض لشيء مما ذُكر.

وتشدد آية أهمية دعم الأهل لأطفالهم عند التعرض لهذه المواقف، وتقول: “من حسن حظي أن والداي لم يكذباني حينها، بل قاموا فورا بإبلاغ الشرطة”. فالأمر الوحيد الذي كانت تريده الطفلة حينها أن لا ترى ذلك الرجل مرة أخرى.

لا تذكر آية تفاصيل الأحداث بعدها، لكنها لا زالت تذكر أضواء سيارة الشرطة التي زارت منزاهم ليلا.

“نسيتُ (أو تناسيتُ) الحادثة التي حصلت معي في طفولتي إلى أن أصبحت أما.. لكن منذ ذلك الحين، حرصتُ على تعليم أطفالي كيف يقولوا كلمة ‘لا’، فهم ليسوا مضطرين على استقبال أحضانٍ أو قُبلٍ لا يرغبوها، حتى وإن كانت من أفراد العائلة”.

شاركت آية قصتها سابقا باللغة الانجليزية، لكن هذه هي المرة الأولى التي تشاركها بلغتها الأم، وتفسر آية ترددها السابق بأن البعض يستغل الغطاء الديني للقيام بأفعال لا يُمكن تقبلها، ما يدفع الآخرين لتكذيب ومهاجمة الأشخاص الذين تعرضوا للتحرش، عوضا عن تصديق أن أفعالا كهذه يمكن أن يكون مصدرها رجل دين أو صاحب سلطة في المجتمع.

وتضيف: “يجب أن نكسر الصمت.. لقد تعبتُ من التظاهر بأن هذه الأمور لا تحدث في مجتمعاتنا.. تعبت من التظاهر بأننا مثاليون”.

وتختم آية قصتها بالتذكير أن: “التحرش يحدث، والكل يعلم أنه يحدث، لكن المجتمع لا يريد أن يعترف بذلك.. التحرش يحدث أكثر مما نتصور، ويمكن أن يحدث من قِبل أكثر الشخصيات تقديرا في المجتمع، وفي أكثر الأماكن أمنا وقدسية”.