Getty Images
هبة والعشرات مثلها تطوعن لتغسيل ضحايا كورونا
في كل معركة أبطال يكرمون وضحايا تخلد ذكراهم. وبالرغم من أن معركة مواجهة تفشي فيروس كورونا حول العالم، التي لم تنته بعد، كلفت المجتمعات الكثير، إلا أنها كشفت عن ضحاياها وأبطالها مبكرا. والنساء كن في الطليعة منذ الشهور الأولى للمعركة.
فالعاملات في القطاع الطبي، الذي تمثل النساء 70 في المئة منه، والمعلمات ورائدات العمل الخيري والتنموي وربات البيوت، كلهن اتخذن مواقعهن في مواجهة العدو منذ اللحظات الأولى لاكتشاف حالات الإصابة.
ومع الإعلان عن بدء الموجة الثانية من تفشي فيروس كورونا في مصر، التقت بي بي سي أربع نساء مصريات ليروين قصصهن عن الكد وتحدي الخوف للتصدي للفيروس وتحقيق غاية واحدة وهي ” أن ننجو سويا ونتجاوز الأزمة”.
هبة: “تغسيل موتى كورونا واجب”
تقول هبة وهي ربة منزل وأم لأربعة أبناء بينهم طفلة في الخامسة من عمرها، إنها تطوعت لتغسيل موتى فيروس كورونا وتكفينهن دون خوف من العدوى أو حتى التفكير في ما يمكن أن يحدث لها “فهذا كل ما استطيع تقديمه في ظل هذه الظروف، وما كتبه الله سيكون”.
فمع بداية الإعلان عن انتشار الفيروس ووسط حالة الخوف التي أصابت الجميع، رفض البعض تغسيل موتى كورونا خوفا من العدوى، وتقول هبة: “وجدت نفسي أشعر أنه حان دوري لأقدم أي شيء للمساعدة، وعدد الموتى كبير بينما عدد المتطوعات المستعدات للمساعدة في ذلك الوقت قليل”.
فأدرجت هبة اسمها بين المتطوعين في أحد التطبيقات الإلكترونية التي تقدم خدمة تغسيل وتكفين الموتى لغير القادرين واسمه “إكرام ميت”.
عاشت هبة في الكويت لسنوات طويلة وذلك قبل العودة إلى مصر للاستقرار نهائيا منذ سنتين. لكنها تعلمت هذا العمل منذ شهور قليلة في المسجد المجاور للمنزل، ولم تمارس هذا الدور أبدا دون إشراف، قبل تفشي فيروس كورونا.
وبحسب هبة، في الأيام الأولى للإعلان عن تفشي الفيروس، كان التطبيق يتلقى 50 بلاغا يوميا عن حالات وفاة ” لا أحد يعرف إذا ما كانت حالات وفاة بسبب كورونا أم لا، لكن عدد البلاغات أكبر بكثير من المعتاد، فلم يكن هناك وقت للخوف، ولم أكن حتى أفكر هل هي متوفية بسبب كورونا أم لا؟ ولم أكن أسال، فقط ارتدى الملابس الواقية واتوكل على الله”.
وتصف هبة هذه الأيام بالطوارئ وتقول “رأيت حالات كثيرة وصعبة، غسلت حالات فقيرة للغاية لدرجة أنهم كانوا يجمعون ثمن الكفن للمتوفية، ورأيت حالات غنية جدا ولا يجرؤ أهلها على لمسها خوفا من العدوى، وغسلت امرأة وضرتها في يوم واحد قبل وفاة الزوج في اليوم التالي، كانت لحظات صعبة، وكنت لا أنام لعدة أيام بسبب ما رأيت لكن الأجر عند ربنا “.
وتضيف هبة أن أكثر ما كان يقلقها هو ترك ابنتها الصغيرة لساعات طويلة مع الجدة أو الأب أو أحد الأصدقاء.
وهبة ليست وحدها، فتطبيق إكرام ميت وحده يضم نحو 100 متطوعة للتغسيل والتكفين، فضلا عن عدد آخر من المبادرات التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي مصحوبة بأسماء وأرقام هواتف النساء والرجال المستعدين لتغسيل وتكفين المتوفين بسبب فيروس كورونا مجانا في أي مكان وأي وقت، وتم تقسيم هذه المجموعات بحسب المناطق الجغرافية بحيث يتم تغطية كل أنحاء البلاد بشبكة من المتطوعين.
وبحسب وزارة الصحة المصرية، تسبب فيروس كورونا في وفاة أكثر من 6800 حالة.
وتقول هبة “كنا نستعمل سياراتنا الخاصة للوصول للمتوفين، ومن ليس لديه سيارة يعتمد على متطوعين آخرين أقرب لينقلوه”.
رضا توني: “مهمتي تستغرق 3 أيام لكنها امتدت لـ4 أشهر “
ومثل هبة لم تجد رضا بدا من تقديم كل ما في وسعها للمساعدة في مواجهة الفيروس، لكن في الميدان الذي اعتادت عليه منذ 19 عاما داخل أسوار المستشفى.
رضا تعمل مفتشة بإدارة خدمات التمريض في أمانة المراكز الطبية المتخصصة في القاهرة، وطُلب منها التوجه ضمن فريق إلى محافظة الأقصر لتدريب طواقم التمريض في مستشفى إسنا وتجهيز المستشفى وإخلائه من المرضى تحسبا لاستخدامه للعزل الصحي لمصابي كورونا إذا تطلب الأمر.
بحسب رضا هذه المهمة تتطلب 3 أيام عمل تعود بعدها لبيتها في القاهرة، لكن بعد انتهاء التدريب تم تحويل مستشفى إسنا لأول مستشفى للعزل الصحي لحالات كورونا في صعيد مصر في مارس/ آذار الماضي، واستقبل المستشفى أول حالات إصابة بالفيروس في البلاد.
استمرت رضا تشرف على التمريض طوال مدة العزل الصحي وحتى خروج آخر حالة بعد تعافيها في يوليو/ تموز الماضي من مستشفى إسنا ، وطوال هذه المدة كان يتم تبديل أطقم التمريض والأطباء كل 14 يوما، لكن رضا ظلت مرافقة لكل الأطقم حتى نهاية العزل.
وطوال هذه الشهور الأربعة، أقامت رضا في الغرفة 601 بالمستشفى إلى جانب المرضى والطواقم الطبية والعمال، وتقول ” كل شخص قدم كل ما يستطيع، كنا متحدين بشكل لم أره من قبل، كأننا على متن سفينة ممسكين ببعضنا ونعرف أنه لو نجت السفينة سننجو جميعا ولو غرقت فسنهلك جميعا”.
وتضيف رضا، وهي خريجة كلية التمريض وحاصلة على درجة الماجستير في إدارة المستشفيات: “لم نكن ننام أكثر من 4 ساعات في اليوم، كنا متحمسين وحولّنا العزل لمكان للاستشفاء، حيث نخفف عن المرضى إحساسهم بالخوف ونطمئنهم ونحتفل معهم بالأعياد، ونهتم بتحسين حالتهم المعنوية”.
وعن الأيام الأولى للعزل الصحي، تقول رضا ” كان بداخلي بعض الخوف، لكن كنت أخفيه حتى أتمكن أنا والفريق الذي يعمل تحت قيادتي من أداء العمل المطلوب، فكنا فقط نحتاط أكثر من المعتاد”.
وبرغم الخبرة الطويلة في التعامل مع الحالات الطارئة، تصف رضا هذه التجربة بالأصعب: “أول مرة في حياتي أقيم في مستشفى بدون خروج لشهور، لأول مرة أقضي شهر رمضان وعيد الفطر وشم النسيم بعيدة عن أخواتي وأولادهم الذين كانوا يطمئنون علي هاتفيا على مدار الساعة، لكني كنت أشعر أنى أقدم ما يستحق التضحية”.
وكانت هذه الفترة الطويلة مليئة بلحظات الأمل والخيبات، فبحسب رضا “تم توليد 18 امرأة بنجاح خلال فترة العزل الصحي كلهن كن مصابات بكورونا، لكن أصعب موقف مر عليها كان عند وفاة أم مصابة بكورونا أثناء ولادة قيصرية، وكانت شابة عمرها 21 سنة، متزوجة حديثا، وهذه أول ولادة لها، بينما عاش توأماها”.
إلهام محمد محمود: ” لم تحدث حالة انتقال واحدة للعدوى طوال مدة العزل ”
انتقلت الطبيبة إلهام محمد محمود استشارية مكافحة العدوى في وزارة الصحة من القاهرة إلى خط المواجهة الأول للفيروس في مستشفى إسنا بالأقصر، في البداية لأداء مهمة تدريبية لمدة 3 أيام، وهي نفسها المهمة التي انتقلت من أجلها رضا للمستشفى نفسه.
وقبل يوم واحد من العودة لأسرتها وبناتها الثلاث في القاهرة، طُلب من إلهام البقاء في مستشفى العزل الصحي لمساعدة الطاقم الطبي وبعد مرور الـ 14 يوما الأولى من العزل، تم إسناد مهمة مدير المستشفى لإلهام التي استمرت بها حتى شهر يوليو/ تموز الماضي.
ويعمل في قطاع الصحة في مصر بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة و الإحصاء في عام 2018 ، وهو جهة الإحصاء الرسمية في البلاد ، أكثر من 100 ألف طبيب وطبيبة ونحو 160 ألف ممرض وممرضة في مستشفيات القطاعين الحكومي و الخاص.
وتقول إلهام عن هذه الشهور “لم أقلق بشأني إطلاقا فهذه طبيعة عملي وأحب مساعدة الناس، كنت قلقة على بناتي خاصة أن أحداهن لديها إعاقة حركية”.
طوال الشهور الأربعة لم تعد إلهام للقاهرة سوى مرة واحدة لمدة 5 أيام، وتقول: “كانت لدي مشاعر متضاربة، أريد أن أري بناتي وأكون بجانبهن لكنى كنت خائفة أن أكون حاملة للمرض أثناء عملي فالأفضل أن أظل بعيدة، كذلك كنت أشعر أننا في لحظة استثنائية وقبل بلوغي سن المعاش أريد أن أكون قدمت كل ما استطيع في مجالي، و العمل في وقت الأزمات هو دوري وواجبي”.
وتضيف” بفضل تكاتفنا شهد مستشفى إسنا أعلى نسبة شفاء على مستوى البلاد، ولم يصب أي من أفراد الطاقم الصحي بالعدوى وهو ما يعد نجاحا كبيرا لخطة مكافحة العدوى والاحتياطات المتبعة”.
بتوليها مهمة مديرة المستشفى أصبحت إلهام مسؤولة ليس فقط عن مكافحة العدوى، وإنما الإشراف على كل صغيرة وكبيرة تتعلق بمستشفى به 154 سريرا بالإضافة إلى 27 سرير رعاية مركزة، والتعامل مع كل المرضى والطواقم الطبية ومحاولة حل كل المشكلات وتيسير عملهم وتذليل الصعاب التي تواجههم أثناء الخطة العلاجية وتوفير المستلزمات والأدوية والطواقم الطبية المطلوبة والإشراف على المسائل الإدارية.
وتضيف: “كنت أشعر كأنى في حرب، ودائما مستعدة لأي طوارئ، ولو عملنا بنفس روح التعاون والتلاحم التي سادت خلال هذه الفترة، لن يكن لدينا مشاكل في قطاع الصحة أبدا”.
وتقديرا لهذه الجهود، تولت إلهام منصب وكيل وزارة الصحة في محافظة الأقصر، لكنها تقول إنه مهما مر الوقت لن تنسى “الزوجين اللذين أصيبا بالفيروس ودخلا العزل معا، لكن في يوم خروج الزوجة بعد تماثلها للشفاء، توفي الزوج، لم أعرف ماذا أفعل كيف سأخبرها وكيف أحافظ على حالتها المعنوية والصحية “.
هبة راشد: “هاتفي لا يتوقف والضغوط في كل اتجاه“
استطاعت مؤسسة “مرسال” الخيرية المتخصصة في تقديم المساعدات في مجال الصحة، أن تكسب ثقة مئات الآلاف خلال الموجة الأولى لتفشي فيروس كورونا.
وتقول هبة راشد المؤسس والمدير التنفيذي للمؤسسة أنه منذ عام 2015 ترفع “مرسال” شعار “علاج بلا تمييز”، وتهدف لتقديم الخدمة الطبية للمرضى غير القادرين مهما كانت جنسيتهم، وعمرهم، ودينهم، وحالتهم المرضية بشرط ألا يكون علاجهم متوافرا في التأمين الصحي.
لكن بحسب هبة كان تفشي فيروس كورونا نقطة فارقة في عمل “مرسال”، فلأول مرة تشارك المؤسسة في مواجهة أزمة صحية عالمية وليس فقط على المستوى الوطني، أو أزمة فرد. فالجهود المطلوبة على المستوى الوطني والإقليمي أكبر من أي وقت سابق كذلك التهديد.
بالإضافة لعملها المعتاد في تقديم المساعدات لنحو 21 ألف مريض مسجل لدى المؤسسة وتنظيم القوافل الطبية للمناطق الفقيرة، منذ إعلان ظهور أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا في مصر في شهر مارس/ آذار الماضي، بدأت المؤسسة في حملات توعية للأسر والمرضى والفئات الأضعف حول أساليب الحماية الشخصية والعزل المنزلي، كما تم توفير مواد التعقيم للأسر الفقيرة مجانا.
واعتبارا من شهر أبريل/ نيسان الماضي ، بدأت “مرسال” في تقديم الدعم للمستشفيات الحكومية إذ قدمت 15 جهاز تنفس صناعي، وساعدت 40 مستشفى حكوميا.
وتقول هبة إنه في شهري مايو/ أيار ويونيو/ حزيران، ارتفع منحنى الإصابات ولم يعد هناك عدد كاف من الأسرة في وحدات العناية المركزة في المستشفيات الحكومية لاستقبال المصابين، فقدمت مرسال “الخدمة الأهم” وهي توفير بدائل مؤقتة في مستشفيات القطاع الخاص لحين توافر أماكن في المستشفيات الحكومية.
بحسب هبة كانت هذه الفترة هي الأصعب حيث تزايد عدد المحتاجين لمساعدة طبية بينما لم تزد التبرعات بالشكل المطلوب ورفعت بعض المستشفيات الخاصة أسعار الخدمة لديها مما شكل ضغطا على الموارد المحدودة بالأساس. وحتى ميسورو الحال كانت لديهم مشكلة في إيجاد أماكن في المستشفيات الخاصة التي كانت مكتظة بالمرضى.
وفي تلك الفترة، وفرت مؤسسة مرسال المعتمدة كليا على التبرعات، مجموعات من الأطباء المتخصصين المتطوعين لدعم مرضى كورونا على وسائل التواصل الاجتماعي، تقدم هذه المجموعات استشارات أونلاين للمرضى في العزل المنزلي.
وتضيف هبة: “لم يكن هاتفي يتوقف حتى الساعات الأولى من الصباح، وكان الخوف والقلق يحيطان بي من كل جانب، فالخوف يسيطر على طالبي الخدمة مما جعلهم أكثر عنفا أحيانا، كنت أيضا قلقة من عدم الحصول على مزيد من التبرعات، ومن عدم القدرة على الوفاء بالتزاماتي وقت الأزمة، ومن ارتفاع أسعار تقديم الخدمة الطبية. كذلك كان علي متابعة طالبي الخدمة عبر الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي لتحديد احتياجاتهم، بجانب مخاوفي الشخصية على أسرتي والمقربين مني”.
برغم الضغط تشعر هبة بالسعادة بما قدمت وتقول ” لهذا السبب غيرت مساري المهني بعد الدراسة في كلية الألسن والتطوع في عدة منظمات خيرية، حيث شعرت بالعجز في مجال تقديم المساعدات الصحية ولهذا اخترت أن أكون الوحيدة والأولى في هذا المجال رغم الصعاب، لسد الثغرة ومحاولة إحداث فرق في حياة الآخرين”.
54029177
وتشدد هبة على أن الأزمة لم تنته بعد “لكن الاستعدادات للموجة الثانية من الفيروس أكبر بكثير وأتمنى أن استطيع تلبية الاحتياجات، رغم أن التبرعات قلت كثيرا عما كانت عليه حيث يعتقد البعض أن الخطر زال”.
وبحسب بيانات وزارة الصحة المصرية، اقترب إجمالي عدد المصابين بالفيروس المسجلين في مصر 120 ألف حالة من ضمنها نحو 104 ألف حالة شفاء.
هذا الخبر فيروس كورونا: كيف ساهمت النساء في مصر في قيادة المعركة؟ ظهر أولاً في Cedar News.