بدأ طالب سوري العام الماضي برنامج ماجستير في إحدى جامعات بريطانيا، ولكن قبل انتهاء سنته الدراسية وجد نفسه وحيدا في المبنى الطلابي، في نهاية شهر آذار/مارس.
سُمح له بالبقاء، في حين حزم معظم رفاقه أغراضهم بسرعة بعد أن أعطت الجامعة كثيرا منهم مهلة يوم واحد أو أسبوع – على الأكثر – للمغادرة، والعودة إلى بلادهم بسبب تفشي فيروس كورونا في بريطانيا.
مجموعة من الطلاب العرب كانوا يحلمون بأن تكون السنة الماضية “فرصة العمر” للتعلم في جامعات بريطانية وعيش حياة مختلفة تغيّر مسار حياتهم – لكن وصول الفيروس إلى أوروبا في منتصف شهر آذار/مارس قلب الجامعات رأسا على عقب.
هذا ما حدث لعدد منهم خلال الأشهر الأربعة الأخيرة.
________________________________________
“أحسستُ بالغضب.. كان من المفترض أن تكون هذه السنة مختلفة“
كانت مَي تعتقد أنها بعد نحو 6 سنوات من عملها المتعب في لبنان مع إحدى المنظمات غير الحكومية، ستحصل أخيرا على استراحة.
أرادت الشابة السورية (التي فضلت عدم ذكر اسمها) أن تحصل على وقت خاص بها تفكّر فيه بشكل مختلف، وتتعلم أشياء جديدة وهي على مشارف الثلاثينيات من عمرها. لكن يبدو أن الحظ لم يكن إلى جانبها – على الأقل بخصوص العام الذي اختارته لمتابعة دراستها العليا.
في الخريف الماضي، وصلت إلى كليتها الجديدة في مدينة برايتون الساحلية، جنوبي إنجلترا، بعد أن حصلت على منحة دراسيّة. وكغالبية الطلاب القادمين من خارج بريطانيا، وجدت الدراسة لمواد الفصل الأول “صعبة جدا”.
“عانيت كثيرا لأنني لم أكن متعودة على التفكير النقدي، والمشاركة في الصف خاصة بلغة أجنبية عليّ. كنت أخاف أن أسأل في الصف كي لا أبدو غبية.. كنت أخاف من الأستاذ ومن الكلام وتعذبت في كتابة المقالات بمنهج علمي لأننا لم نتعلم ذلك في مدارسنا”.
وما أن بدأت تتأقلم تدريجيا، حتى بدأت الظروف حولها تتعقد – تدريجيا أيضا.
أعلن اتحاد المدرسين إضرابا عاما في أواخر شهر نوفمبر/تشرين الأول الماضي، استمر لعدة أسابيع احتجاجا على قرارات ستؤثر سلبا على معاشات مدرسي الجامعة التقاعدية وعلى رواتبهم الشهرية، إلى جانب أمور تتعلق بخصخصة جوانب عديدة من قطاع التعليم العالي في البلد. فخسرت مي وزملاؤها، وكثير من طلاب الكليات البريطانية، نحو 20 ساعة تدريس في الفصل الأول.
ومع الفصل الثاني، الذي بدأ في فبراير/شباط الماضي، بدأت موجة إضراب ثانية للأساتذة وانتهت مع منتصف شهر آذار/مارس. “كنا في الفصل الأول كطلاب متضامنين مع الأساتذة.. لكننا أحسننا أنه من الظلم أن نخسر مزيدا من حصص التدريس خاصة وأن كثيرا من الطلاب يدفعون من مدخراتهم الخاصة”.
ثم وصل فيروس كورونا إلى البلد.
“شعرتُ بالغضب. بعد سنوات من العمل، كان من المفترض أن تكون هذه السنة مختلفة. وقت الإضراب كان معروف على من سنغضب.. على نظام ظالم للأساتذة.. أما في حالة كورونا لم نكن نعرف على من سنغضب”.
فجأة تحول كل شيء إلى صفحات الإنترنت، رغم أن جامعتها لم تكن مهيئة تماما. وتقول مي إن أكثر ما افتقدته هو غياب الأحاديث السريعة الودية سواء مع الأساتذة أو الطلاب في الجامعة أثناء شرب قهوة مثلا.
“في البداية ساعدتني تلك النقاشات كثيرا كي أكوّن صداقات، وساعدتني كي أفهم نفسي أكثر ونقاط قوتي. كانت تلك العلاقات الإنسانية مهمة”.
وقّع كثير من الطلاب أكثر من عريضة للمطالبة بإيجاد حل لأنهم أرادوا الحصول على فرصة تعلّم كاملة، إذ كان صعبا التعلّم دون القدرة على استخدام المكتبة تحديدا لأن الكتب لم تكن متوفرة كنسخ إلكترونية – لكن لم يكن هناك جدوى من هذه المطالب.
“كطلاب دفعنا جزءا من أقساطنا لنستفيد من هذه الكتب. وقعنا عرائض للحصول على تعويض مالي أو لإيقاف الفصل وإعادته في الصيف. رفضوا كل شيء. وكان أقصى ما يمكن الحصول عليه هو تعويض مالي بسيط على الضرر النفسي”.
مع الوقت تعوّدت مي على هذا النمط الجديد من الحياة، بدأت تكتب من البيت، وتشارك في مجموعات نقاش لا تعرف فيها لا الأساتذة ولا الطلاب، وتفتح الكاميرا عبر تطبيق زووم لتشعر وكأنها تدرس قرب أصدقائها، كما كانت تحضر حفلات عبر الشاشة كان يشارك بها عدد كبير من طلاب جامعتها وأساتذتها، الذين كانوا بدورهم متوترين من كل ما يجري.
“كل هذا كان يجري وأنا خائفة على أهلي وأصدقائي في سوريا ولبنان من كورونا.. وخائفة على نفسي أيضا”.
كيف تعايش عرب بريطانيا مع فيروس كورونا؟
مناشدات طلاب وأطباء مصريين تشعل مواقع التواصل
________________________________________
“اهتممت بصحتي الجسدية وتعلمت طبخ أكلات جديدة”
BBC” كانت صدمة”، يقول كرم. “خلال أسبوع أصبحت المنطقة خالية. مدينة ميتة.. معتمة”.
مع بداية انتشار الوباء بعثت جامعة في بريطانيا رسائل إلكترونية “بغزارة” تطلب من كل الطلاب العودة إلى بلادهم خوفا من تفشي المرض بينهم.
كان السوري، كرم القطلبي، ذو الـ 29 عاما، والحاصل على شهادة في هندسة العمارة من بلده، واحدا من أولئك الطلاب الذين استلموا تلك الرسائل .
“كان الموضوع مزعجا جدا لكثيرين لدرجة لا يمكن تصورها. أُجبر أشخاص على الإخلاء والمغادرة.. أنا اضطررت أن أبعث رسائل مدة نحو 10 أيام لأبرر أنني غير قادر على العودة الآن”.
“فقط لو رأيت وضع الطلاب حينها: بعضهم أعطي مهلة يوم واحد للإخلاء، آخرون حصلوا على أسبوع .. بعضهم بدأ بجمع أغراضه بأكياس القمامة.. بعضهم غادر دون حزم أغراضه”.
يضم كل بناء في السكن الجامعي قرابة 10 أشخاص، غادر كل من كان في المبنى الذي يقيم فيه كرم. وكان ممنوع على من بقي من الطلاب التنقل من بناء إلى آخر – أغلق كل شيء ما عدا الحدائق.
كان من بقي في السكن الجامعي هم الطلاب الذين لا يستطيعون المغادرة لعدة أسباب، مثلا من قد يتضرر بحثهم النهائي بسبب عدم توفر الكهرباء جيدا كما هو الحال للقادمين في بعض دول أفريقيا، أو من يعيش في بيت مزدحم أو أبواه مسنان وبحاجة لعدم الاقتراب منهما لحمايتهما، أو من يواجه صعوبات مالية أو قانونية.
” كانت صدمة”، يقول كرم. “خلال أسبوع أصبحت المنطقة خالية. مدينة ميتة.. معتمة”.
أرسل الطلاب عريضة للجامعة مطالبة بتعويض كامل أو جزئي، ولكن رفض الطلب تماما، كما يشرح كرم. ردت الجامعة إنها ستتعامل مع كل حالة على حدا.
يقول كرم إنه تأثر كباحث لأنه لم يعد قادرا على السفر من أجل القسم العملي من بحثه، كما أنه تضرر من عدم إمكانية الوصول إلى كتب المكتبة – لكن الجامعة اضطرت لشراء بعض الكتب وإرسالها إلى غرف الطلاب.
“أنا راض عن بحثي.. ليس بشكل كامل. ضيعت وقتي بسبب حالة العزلة التي أثرت علي. ضرتني أكتر ما فادتني. كنت معتادا أن أتنقل بين المكتبة والمقهى لأنني أحب التغيير عند الكتابة .. في المرحلة الأخيرة فقط من الكتابة التي تتطلب التركيز كنت أحب أن أكون في غرفتي”.
لكن كرم استفاد من تلك الحالة للتركيز على صحته.
“التوتر لاحقني إلى داخل الغرفة لأنني كنت ألاحق التطورات المتعلقة بفيروس كورونا. صرت أمضي وقتي في الرياضة والتسوق والطبخ. كنت ألتقي بزملاء عن بعد في الحدائق. اهتممت بصحتي الجسدية.. تعلمت طبخات جديدة. وأحيانا كنت أكتب أكثر”.
كان كرم يسأل نفسه في أوقات كثيرة “هل كل هذا حقيقي؟” – الوضع كله كان غريبا على الجميع وخاصة على طالب من المفترض أن يمضي وقته مركزا على أطروحته النهائية، لكنه وجد نفسه يمضي الوقت في تعقيم الأغراض بالخل والملح بشكل متكرر.
لكن تعوّد كرم على هذه الحياة، وهو الآن مشغول بالبحث عن تمويل لبرنامج دوكتوراه يحاول الالتحاق به، وينتظر النتيجة النهائية لأطروحته ذات الـ 17 ألف كلمة والتي كتبها أثناء الحجر.
________________________________________
“مش ندمان”
BBC”كان بدها قلب قوي أن أضع كل مدخراتي للدراسة”
جمع الأردني، ابراهيم بنات، كل مدخراته وقرر أن يسافر إلى إنجلترا في خريف عام 2019 ليدرس الإعلام في واحدة من أهم جامعتها، بعد أن حصل على منحة دراسية بسيطة تساعده على دفع الأقساط الباهظة – فهدفه واضح: أن يكون جاهزا لتغطية مونديال 2022 .
بقي ابراهيم (25 عاما) يعمل بمنظمة غير حكومية منذ تخرجه قبل سنوات. “منذ أن كنت في عمر 16، وهدفي أن أسافر وأدرس. كان بدها قلب قوي أن أضع كل مدخراتي للدراسة. لكنني غير نادم؛ فالجامعة جيدة والقبول بها غير سهل”.
وصل ابراهيم إلى جامعته في لندن أواخر شهر أغسطس/آب، وغادرها بعد أقل من 10 أشهر – بعد أن كان قد أمضى آخر شهرين في البيت.
يقول ابراهيم إن الإحباط الذي شعر به كان متوقعا، لكنه شعر بأنه كان قد استفاد مما تعلمه في الجامعة.
لكن كان ما أزعجه كثيرا أمر آخر.
“خسرت فرصة تكوين علاقات تساعدني في العمل والتشبيك.. كان ذلك أصعب شيء. التغت فرص تدريب كنت آمل الحصول عليها في لندن لبناء علاقات تساعدني للحصول على عمل”.
عاد على متن طائرة أجلت المواطنين الأردنين من بريطانيا – لكن ابراهيم الذي درس إنتاج البرامج الوثائقية لم يكن مثله مثل بقية العائدين.
وثّق ابراهيم رحلته منذ مغادرة الجامعة، والسفر، وحتى داخل مكان الحجر في الأردن والذي أمضى فيه 17 يوما باستخدام هاتفه المحمول. وقال إنه عرض فيلمه الوثائقي هذا على فضائيتين.
وكان ذلك ثاني مشروع يعمل عليه: الأول أنتجه مع زملائه في لندن حول تعامل الناس مع الوباء. وعمل معهم بعد ذلك – عن بعد – على مشروع حول تضرر قطاع السياحة في الأردن.
وحاليا يعمل ابراهيم مع راديو محلي ويخطط لزيارة لندن نهاية العام لحضور حفل التخرج – إذا كانت الأوضاع أفضل في بريطانيا.. رغم المخاوف من موجة جديدة من الوباء قد تعصف بالبلد في فصل الخريف.