عند مشاهدة مسلسل “طيف إسطنبول” التركي المعروض حالياً على نتفليكس، قد يشعر كثيرون بالتماهي مع الشخصيات على مستويات عدة.
يحمل “طيف إسطنبول” اسم Ethos بالإنجليزية (وتعني نزعة الحياة)، و Bir Başkadır بالتركية، أي “شيئ مختلف”، وهو متوفر بدبجلة باللهجة السورية.
يبتعد المسلسل عن المعتاد من المسلسلات التركية التي باتت جزءاً أساسياً من الاستهلاك الترفيهي في البيوت العربية. فهو ليس قصة حبّ مستحيل، ولا دراما تاريخية عن جواري السلطان سليمان القانوني، ولا عن ملاحم أرطغرل.
ويطرح العمل موضوعاً لا يمسّ المجتمع التركي فقط، بل المجتمعات العربية أيضاً، وهو تأثير المعتقدات الدينية الشعبيّة على علاج الاضطرابات النفسيّة، والتصوّرات المسبقة المغلوطة عن الآخرين تبعاً لخلفياتهم الدينية أو طبقتهم الاجتماعية.
منذ اللقطات الأولى، يضعنا المخرج بركون أويا على تماس مع شخصيتيه المحوريتين: عاملة التنظيف مريم (أويكو كرايل)، وهي فتاة فقيرة، محجبة، تقيم مع شقيقها وعائلته، والطبيبة النفسية بيري (دفنة كايالار)، ابنة العائلة الميسورة، البعيدة عن أي ممارسة دينية.
وتلتقي البطلتان في العيادة، حين تزورها مريم، بحثاً عن حلّ لنوبات اغماء متكرّرة، ولكن، عليها قبل أن تكمل جلسات العلاج النفسي، أن تأخذ إذن شيخ القرية.
يبدو أن تأثير مريم على طبيبتها، كان سلبياً. هكذا، تذهب بيري إلى عيادة المعالجة النفسية غولبين (تولين أوزن)، ولكن بدور المريضة هذه المرّة، لتحكي عن صراعها الداخلي تجاه مريضتها الجديدة.
يتبيّن أن تربية بيري الرافضة للتديّن، لا تستطيع أن تأخذ موقفاً موضوعياً من المريضة، لأنّها محجبة، ولأنّها تعدّ استشارة الشيوخ في أمور الصحة النفسية، من مظاهر “التخلّف”.
حين تختلي غولبين بصديقها سنان (اليجان يوجيسوي)، تعبّر عن احتقارها لنظرة بيري المتعالية تجاه المحجبات، وعن تفكيرها بعدم استكمال الجلسات العلاجية معها.
ولكن، مع تقدّم المسلسل، نكتشف أنّها تعيش صراعاً مماثلاً، مع شقيقتها الكبرى غولان (ديريا كاراداس)، المحجبة والملتزمة دينياً. صحيح أنّ غولبين ترفض الأحكام المسبقة، لكنها في الوقت عينه تجد صعوبة في التواصل مع شقيقتها، الرافضة لنمط حياتها.
هكذا، يظهر التديّن، بشقه الاجتماعي والثقافي والنفسي، كمعضلة مركزيّة في العمل، يعالجها من خلال لعبة مرايا، تحاول أن تظهر أطياف متعدّدة من المجتمع التركي.
الملفت في العمل أنّ المواقف التي تواجهها الشخصيات، قريبة جداً من مواقف يختبرها كثر في البلدان العربية أيضاً. فكم مرّة نصادف أشخاصاً يبحثون عن العلاج النفسي في كتابة الحجابات، والرقية، وغيرها؟ وكم مرّة نصادف خلافات عائلة بين أشقاء وشقيقات يختارون مناهج مختلفة في الحياة؟ وكم مرّة نشعر بأنّ الآخرين يحصروننا بأدوار نمطية تبعاً لطبقتنا الاجتماعية أو ديننا؟
سألنا بعض المعلقين على تويتر عن رأيهم بالمسلسل، وتقول ميساء من الأردن إنّ صناع العمل أرادوا “إيصال فكرة أنّ الجميع يعانون من مشاكل نفسية سواء كانوا علمانيين أو متدينين”.
وأوضحت ميساء قائلة إنّ التقارب الكبير بين الواقع الذي يعرضه “طيف إسطنبول” والواقع العربي، طبيعي، لأنّ “هناك ديانة طاغية، والحجاب، شئنا أم أبينا، تعبير عن الإسلام”.
وتضيف ميساء أنّها فهمت تجربة شخصية مريم، لأنّها محجبة بدورها، و”أحياناً ينظر إليّ البعض نظرات توحي بالاستخفاف، كأنّ من أمامكِ غير مقتنع أنّ لديك مخ، فقط لأنكِ محجبة”.
وتتحدّث ميساء أيضاً عن موقف الطبيبة النفسية بيري، وتقول أيضاً أنّها كادت تضحك عند مشاهدتها وهي تتحدّث عن شامان (معالج روحي) تريد زيارته في البيرو. “تبدي تحفظها على المؤمنين، وفي الوقت ذاته، تعبّر عن إعجابها بشيء لا تفسير له. كلّ شخص يختار إلهه في الحقيقة”.
من جهتها، تقف إيناس، وهي موظفة من لبنان، على طرف نقيض، وتقول إنّها تجد “صعوبة ببناء صداقات عميقة مع المحجبات، لأن التعلّق بمظاهر الدين تضييع للوقت، والهدف منها إلهاء الناس عن اكتشاف الحياة، والتطوّر في العمل، والاستمتاع بما خلقه الله، عبر التفكير كل الوقت بالحلال والحرام”.
ولكن، يناس ترى أنّ شخصية مريم، “وإن كانت مرتبطة فكرياً بشيخ قريتها، إلا أنّها تقبّلت فكرة العلاج النفسي، واستطاعت أن تفهم مشكلتها مع كبت الأحاسيس. وذلك ما لم نلحظه على أخيها ياسين، الذي بقي متعلقاً بالالتزام الديني، وغير قادر على استيعاب مرض زوجته روحية النفسي”.
أما حنان أبو نصر، وهي فلسطينية مقيمة في السويد، فترى أنّ مشكلة شخصية بيري، تعود لخلفيتها العائلية، “فأمها كما رأينا في المسلسل، لا تعرف حتى اسم العاملات المنزليات اللواتي يرتّبن لها بيتها، أعتقد أنّ دافعها طبقي وفوقي، وكأنّها تعيش في فقاعة”.
في الوقت ذاته، تقول حنان إنّها رأت في ملامح الشخصيات ما يشبه نساءً كثيرات في مجتمعنا، “مثل ابنة الشيخ هايرونيسا (بيج أونال) التي تخفي ميولها الجنسية المثلية عن أهلها المتدينين، وكذلك مثل مريم في خوفها وصدمتها من علاقات سنان خارج إطار الزواج”.
وسنان هو صديق غولبين، وصاحب المنزل حيث تعمل مريم في التنظيف، وتنشأ لديها تجاهه مشاعر حبّ من طرف واحد، فيما هو يعيش علاقات متعدّدة مع أخريات.
وتقول يارا دبس، من لبنان، إنّها كشخص غير متدين، “لا علاقة لي بالمتديّن، وليس جميلاً أن أسخّفه أو أحاول تغييره، طالما أنّ شكل الايمان الذي يتبعه يمنحه راحة نفسية، وذلك ما وجدته في ايمان شخصية مريم التي من الصعب أن تنسلخ عن عادات شبّت عليها منذ الصغر. وكذلك في ايمان الشيخ علي (سيتار تانريوجين)، الذي تقبّل ابنته ودعمها مع أنّها تتبع نمط حياة لا يعجبه”.
وتضيف يارا إنّ المسلسل يظهر نموذجاً آخر من التديّن، “في شخصية غولان، الأخت الكبرى العصبية التي تريد دوماً أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتريد الغاء أختها غولبين، ولا تتقبلها. وهذا الشكل من التديّن هو الذي يخلق نفوراً حين يصير أداة لتطويع الآخرين ومحاسبتهم”.
ومن خلال شخصية المعالجة النفسية بيري، “يحطّم المسلسل صورة الفوقية التي يتعامل بها غير المتدينين مع المتدينين”، تقول يارا. “حتى أنّها تقول في أحد المشاهد أن مريضتها المحجبة ذكية، وكأنّها مصدومة من ذلك، لأن لديها فكرة راسخة أنّ المتدينين أغبياء وأنها أذكى منهم”.
تقول: “الطبقة التي نولد فيها، لها دور في تحديد هويتنا، ومن الصعب أن نختار ذلك، ولكن يمكننا أن نختار تخفيف أحكامنا المسبقة عن المختلفين عنّا”.
يقيم الطالب الفلسطيني ياسر محمد في تركيا منذ سبعة أعوام، ويرى أنّ مسلسل “طيف إسطنبول” لا يعبّر عن التديّن في تركيا بشكل عام، بل عن فئات معينة من المتدينين.
“على مدار إقامتي في تركيا عايشت عن قرب قصصاً عن ارتباط بعض الأشخاص بالشيخ أو الخوجا Hoca (اسم يطلق بالتركية على الشيخ أو المدرس، أو العالم في مجاله)، وبعضهم يسلم نفسه لأوامره”، يخبرنا ياسر.
ويقول إنّه من خلال متابعته، لاحظ أنّ المسلسل لم يتطرّق إلا “لجزئيات من صراع العلمانية والتديّن في تركيا، مع أنّه ظاهرة تطال كل شيء من السياسة إلى يوميات الناس. لم يسلّط صناع العمل الضوء على هذا الصراع كحالة كاملة، لها جذورها التاريخية. يظهر المسلسل المتدين التركي البسيط، وعلاقته الشخصية بالدين الهادفة إلى التوفيق والستر والأمان الروحي، لكنه لا يتطرّق للأهداف الجماعية لبعض التيارات الدينية”.
الدراما التركية تبزغ في سماء العالم العربي
يقول ياسر إنّه لم يقابل خلال اقامته في تركيا أي شخصية غير متدينة مثل شخصية المعالجة النفسية بيري صاحبة الرافضة للحجاب. “سمعت عن نماذج مماثلة لها في الإعلام، علماً أنّ الإعلام هنا محسوب على المتدينين، ويركّز على أمور ممثالة. لكنني اختلطت بالكثير من الطلاب والطالبات الأتراك من مختلف المدن والقرى خلال الدراسة والعمل، ولم أواجه أي من هذه الحالات”.
من جهتها، تقول بانا الحسيني، وهي طالبة علم نفس سورية مقيمة في الولايات المتحدة، “إنها لم تتخيل مشاهدة مسلسل مثل “طيف إسطنبول” على نتفليكس، لأنّه يتطرق لموضوع محرّم، وهو العلاج النفسي وعلاقته بالدين في بعض المجتمعات”.
ما لفت نظر بانا، أنّ الشخصية الرئيسية، مريم، لم تكن تدرك حتى أنّ الأعراض الصحيّة التي تعاني منها، ناتجة عن سبب نفسي. “تعلمت أن تصلي حين تشعر بالقلق أو الهلع، ما قد يكون نافعاً لدى بعض المؤمنين لكي يشعروا بالسلام النفسي، لكنّه ليس كافياً”.
وتعطي مثالاً على ذلك في شخصية الشيخ علي الذي يحاول أن يساعد من يأتون لطرح أسئلة عليه، لكنه يكرّر ذات الجمل والأمثلة على مسامعهم.
وتلاحظ بانا مثالاً آخر، نجده في المسلسل من خلال العلاقة المتأزمة بين الشقيقتين غولان وغولبين، فالأولى المتدينة، تصف شقيقتها المعالجة النفسية “بالكفر”، لأنّها أرادت أن تعالج شقيقها المصاب بالشلل، من خلال الدواء، فيما تصّر هي على علاجه بالدعاء فقط.
وترى بانا أنّ طريقة تصوير المسلسل لهذا الصراع، دقيقة جداً، ويمكن لكثر أن يتماهوا معه، “لذلك قد يساهم في توعية أشخاص يعيشون في موقف مماثل”.
هذا الخبر طيف اسطنبول: عن الدين والعلاج النفسي والأفكار المسبقة ظهر أولاً في Cedar News.