ذكريات بلا رائحة

انتقلت الى لندن منذ تسع سنوات، تنقلت بين مدن وبيوت، أنا وحقائبي وأحلامي المبهمة. حقيبة حمراء كبيرة بقيت مقفلة في كل بيت نزلت به، خبأت بها بعض ملابسي وكتبي المفضلة ورائحة صابون الغار الذي كنت أعطر به خزانتي في دمشق. كنت أخشى إن فتحتها أن تتلاشى الرائحة “هنا” وأصدق أن مكاني بات خالياً “هناك”.

بالغت في أكل الوجبات السريعة الجاهزة، وفي تجاهلي لاقتناء أي من أدوات المطبخ أو الأطعمة التي تحتاج للطهي في المنزل. الطبخ يعني الاستقرار، وأنا كنت أصر على العيش في “المؤقت”.

مرت أكثر من سنة قبل أن أمسك بزجاجة زيت الزيتون لأسكبه في وعاء الطبخ وأبدأ بتقشير الثوم والبصل. مكالمات هاتفية متكررة مع دمشق لأسأل عن كل خطوة من خطوات الطبخ بالتفصيل الممل، ابتداء من حجم البصلة الى أكثر الأمور تعقيداً. وقد لا نختلف أن أي وصفة نأخذها من أمّنا تعني تجاوز الكثير مما يعتبرنه “بديهيات” والتي كلفتني تجارب كثيرة خائبة في محاولة استحضار أحد أطباق أمي.

BBCمحاولة ناجحة في تحضير “الحراق اصبعو” الشامي

هذه بالتحديد كانت علاقتي بالطبخ: أطباق أمي. رائحة الكزبرة والثوم المقلي وصوت المذياع في مطبخ بيتنا الصغير بدمشق، طعم الطماطم المقطع بعد البصل على الدفة الخشبية أثناء التحضير لحفلة شواء في منزلنا في القرية. رائحة الدجاج المحمّر بالسمن البلدي قبل سلقه مع الرز بالحمّص في وجبة ستلتف حولها كل العائلة بالرغم من ضيق الوقت وازدحام الطرقات. الطعام مرتبط بكل ما تركته في بداية الطريق الطويل الى المطار، قبل تسع سنوات. هل سيتغير كل هذا؟

حبر وكبسولات

نهاية العام الماضي سافرت الى إسبانيا، أرض الزيتون والطماطم واللحوم المقددة. المكان الوحيد في أوروبا الذي أشم فيه رائحة شجر الدوالي والزيتون من شواطئ سوريا، وكأن البحر حملها عبر ضفتين بعيدتين. في إحدى مدارس الطهي في برشلونة كان ينتظرني باحث إيطالي ليعرض الجهاز الذي طوره لإنتاج شرائح نباتية بديلة عن اللحم عبر طباعتها بطابعات ثلاثية الأبعاد. راقبت انسياب مزيج الرز والبازلاء السائل كالحبر من كبسولات ذات رؤوس دقيقة، ترسم خطوطاً رفيعة جداً ومتراصة لتشكل نسيجاً يشابه بنية العضلات. من الصعب كان التصديق أنني سأضطر لتذوق هذا الشيء عندما تنتهي الآلة من عملها، وسأقول بعدها أنني جربت أول شريحة نباتية مصنّعة ومطبوعة.

في الغرفة المجاورة تماماً مجموعة من طلاب الأكاديمية يتفننون في إعداد أطباق التورتيا الاسبانية بطريقة سهلة الأكل للمرضى الذين يعانون من صعوبات في البلع. جذبتني روائح البيض والبطاطس والفليفلة. وقفت أراقبهم من خلف الزجاج بينما تنهمك الطابعة خلفي في إنهاء شريحة أخرى. هل أقف الآن بين الحاضر والمستقبل؟

السفر الى المستقبل

وصلت الى أحد المطاعم الحديثة في برشلونة، أسسه أخوان توأم، كلاهما طاهيان شهيران في اسبانيا. أربكاني كل مرة غيرا فيها مكان وقوفهما لشدة الشبه بينهما. وصل الشابان على دراجتيهما الهوائيتين وخلف كل منهما صندوق يفيض بمختلف أنواع الخضار والأعشاب التي أحضراها من إحدى القرى القريبة من برشلونة لتكون ضمن مكونات طبق اليوم. في وسط المطعم تماماً اصطفت الطابعات ثلاثية الأبعاد التي سترسم مزيج هذه المكونات في أشكال جذابة ولطيفة.

كنت أتساءل كيف يشعر هؤلاء الطهاة حيال تصاميم تقنية كهذه. أليس الطبخ مزاج؟ نقول بالعامية الطبخ “نَفَس” وبالانكليزية “I cook with love” أي أطبخ مع الحب. أين الآلات من كل هذا؟ لكن كلا الطاهيين اتفقا أن كل شيء يتغير بسرعة، وحتى الطباخين يجب أن يواكبوا التكنولوجيا وإلا سيبقون في الخلف. مدّ لي بطبق التونة مع قشدة البرانيلييه الذي أنهته الطابعة للتوّ كي أتذوقه. كان لذيذاً!

لا أعرف إن كان توجسي حيال هذا النوع من التطور يشبه عدم ارتياحي لفكرة استخدام “الميكرويف” عندما دخل بيتنا منذ زمن طويل. الطابعة ثلاثية الأبعاد لا تختلف كثيراً من حيث الشكل، إنها صغيرة وملساء وأنيقة، ستبدو مناسبة في أي مطبخ حديث.

"كعكة الجبن" المطبوعة لاتختلف كثيراً عن تلك التقليديةBBC”كعكة الجبن” المطبوعة لاتختلف كثيراً عن تلك التقليدية

وكأنها تقرأ أفكاري بدأت ممثلة الشركة المصممة للطابعات ثلاثية الأبعاد بسرد مزايا هذه الأجهزة. قالت بثقة أن طباعة الطعام لن تكون بالفكرة المجنونة بعد الآن، وأن الكثير من الناس سيرغبون باقتناء هذا الجهاز والتفنن في طباعة الحلويات والبسكويت وغيره بدلاً من شرائه من المتاجر. لم أعارض وجهة نظرها، كنت ربما أميل للاتفاق معها بينما أراقب تصميم طبق “كعكة الجبن” الذي أحبه داخل طابعة منزلية. حقيقةً مذاقها لم يختلف كثيراً عما نأكله في المطاعم.

أيامي القليلة في برشلونة بدت كرحلة عبر الزمن الى مستقبل الطعام، مطابخ حديثة وطابعات وشرائح نباتية لا تشبه أي شيء تذوقته في حياتي. أبهرني ما رأيت، وتحايلت على توجسي بتذكير نفسي بعدد الأفكار التي بدت غريبة في البداية ومن ثم تحولت لبديهيات في المستقبل. تماماً كالبديهيات التي تغفلها أمي كل مرة تعطيني وصفة طعام جديدة بينما أحاول مجدداً خلق رائحة بيتنا الدمشقي في لندن. الرائحة التي لم تتمكن أي آلة طعام من تقليدها.

رافقوني في رحلتي الاسبانية الى المستقبل في “فورتك” هذا السبت الساعة 17:30 بتوقيت غرينتش على شاشة بي بي سي.