هل يمكن تخيل أكثر من 370 ألف مولد كهربائي تعمل في وقت واحد فوق المساحة اللبنانية الضيقة، وهي بين الأحياء والشوارع، وفي القرى والبلدات التي تعج بالمواطنين وبالنازحين. وتتزايد خطورة التلوث هذه الأيام، لأن المولدات تضطر لتوفير التيار لأنه متوقف تقريبا من مصدره في مؤسسة كهرباء لبنان، وهذه الحالة من التقنيين لم تصل إليها البلاد حتى في ضرورة أيام الحرب، ويزيد الانقطاع على 20 ساعة يوميا، بما في ذلك في بيروت التي استثناها قرار مجلس الوزراء من التقنيين لعدم تعطيل حركة الدولة والمؤسسات والسفارات المتواجدة فيها، ولأن المساحة الجغرافية الضيقة للمدينة لا تسمح بوضع مزيد من المولدات التي تعمل على الديزل الذي يسبب انبعاثات سامة.
في مدينة بيروت وحدها تم إحصاء أكثر من 8 الآف مولد تعمل في وقت واحد، وتسمع أصوات المولدات في كل مكان، وتشتم رائحة انبعاثاتها في الشوارع والأماكن العامة، ويدخل رذاذها الأسود الى المنازل، لأن النوافذ مشرعة طلبا لنسمة هواء، لأن غالبية المولدات لا تتحمل تشغيل مكيفات التبريد. والهموم موصولة الى أعباء كلفة تشغيل وصيانة هذه المولدات، ومشقة تأمين الديزل لها، في وقت تعاني البلاد برمتها من نقص المواد المستوردة وغلاء ثمنها، وأولها المشتقات النفطية ولو كانت مدعومة من مصرف لبنان.
مأساة اللبنانيين تتفاقم وسط لامبالاة حكومية غريبة، وهذه اللامبالاة لا تنم عن فشل ساسي وإداري فقط، بل تؤكد وجود استهتار يصل الى حد التآمر على مصلحة الناس لصالح حسابات شخصية وخارجية، او ربما لدفع هؤلاء الناس الى الانقضاض العنفي على المسؤولين عن مأساتهم الوطنية والمعيشية والمالية، وبالتالي فتح الأبواب أمام جحيم نزاعات داخلية لا يمكن تخيل مدى خطورة نتائجها.
لقد أفسحت قوى سياسية رئيسية المجال أمام المسيطرين على الحكم، وخرجت هذه القوى من الحكومة مسهلة لها كل ما يمكن أن تقرره في مجال معالجة المعضلات الصحية والمالية والاقتصادية والكهربائية، لكن الممسكين بزمام الأمور لم يحركوا خطوة إصلاحية واحدة، ولم يعالجوا أيا من المشكلات المذكورة.
وعلى العكس من ذلك، فهم يحاولون إجهاض كل المبادرات الإنقاذية التي تطرح لإخراج البلاد من الانهيار، بما في ذلك محاصرة مبادرة البطريرك الراعي الحيادية، والطروحات الفرنسية التي حملها وزير الخارجية جان إيف لودريان الى بيروت، والذي أطلق فيها شعار «ساعدونا لنساعدكم» بمعنى طبقوا شيئا من الإصلاح السياسي والمالي، وخصوصا في بؤرة الهدر الكهربائية، لكي يتسنى للمجتمع الدولي والعربي الوقوف الى جانبكم.
لا يبدو أن شيئا من إعادة النظر في سياسة التهور والاستبداد المعمول بها منذ 6 سنوات قد تغيرت، وهناك انفصام سياسي يعيشه بعض المسؤولين الذي يعتقدون أن خطواتهم صائبة وحققت إنجازات، بينما هي في الواقع خطوات مدمرة أفقرت الشعب وأضرت بمصلحة الدولة العليا، وأنهكت المؤسسات – لاسيما الأمنية منها – والإهمال المستمر يهدد بخروج كورونا عن كل أشكال السيطرة. والممسكون بزمام الأمر، يطلقون فريق الشتامين لتشويه سمعة أخصامهم، ويعتقدون أن ذلك كاف لتصويب الوضع!
آخر خطوات التهور السياسي كان الطعن غير المبرر بقانون آلية التعيينات في الفئة الأولى، والذي حظي بتأييد أكثر من ثلثي أعضاء مجلس النواب، كذلك الاستمرار في متابعة مشروع سد بسري المكلف ماليا والمدمر للبيئة.
تنذر الهموم المتفاقمة التي يعيشها اللبنانيون بانفجار سياسي واسع، قد يصل عند البعض الى المطالبة بالتحلل من العقد الوطني الذي هو بالأساس تفاهم على قواسم مشتركة، وتشعر أغلبية لبنانية بأن الدولة المنهارة تدار بالكامل من فريق «الممانعة» وهذا الفريق لا يراعي التفاهمات الوطنية ولا القواسم المشتركة بين اللبنانيين.
الانباء – د.ناصر زيدان