كتب جيفري فيلتمان في “أساس ميديا”: لطالما غذّى اللبنانيون كما الأجانب صور الحنين حول ما يمثّل لبنان على نحوٍ افتراضي. لكن الانفجارات المأساوية في بيروت في الرابع من آب برهنت مرة أخرى كم أنّ الواقع بعيد عن الحقيقة.
ثمّة نكتة جليلة شائعة في لبنان تفترض أنّ الله حبا لبنان بجبال جميلة، وشواطئ مشرقة، ومنابع مياه عذبة، وتربة خصبة، وسهول غنية، وشعب جذّاب: هي الجنّة. لكن الله أدرك لاحقاً أنّ الجنّة هي من أجل الحياة الآخرة، لذا، خلق جيران لبنان. إنّ تاريخ لبنان الحقيقي، والذي يقترب من مئويته الأولى في 1 أيلول، هو حكاية العلاقات الشائكة مع الجيران.
الأسطورة المريحة عن لبنان الذي من شأنه أن يكون جنّة، تحطّمت كثيراً قبل التفجيرات المدمّرة على نحوٍ مذهل هذا الأسبوع. فالفيديوهات والشهادات الآتية من بيروت على نحوٍ متزامن، صادمة ومفجعة. وتفيد المعلومات الأوّلية عن الانفجارات أنّ اللبنانيين هم المذنبون في الأرجح، لا السوريون ولا الإسرائيليون. ويظهر هنا مثال آخر عن إهمال غير مسؤول أو حتى هو إهمال إجرامي من جانب المسؤولين اللبنانيين. وكأنّ الشعب اللبناني ما زال يحتاج إلى دليل إضافي على الأداء السيء لحكوماته المتعاقبة.
وكذلك، لا حاجة إلى نظرية تآمرية خلّاقة لطرح تفسير منطقي يورّط الخصمين المعتادين للبنان: حزب الله وإسرائيل. لا شكّ أنّ حزب الله يقوم بدور مهيمن وإن بخفاء في مرفأ بيروت (كما في المطار الدولي). وركّزت إسرائيل جهدها على اعتراض عمليات تهريب أسلحة حزب الله عبر الحدود السورية اللبنانية. وإذا كانت إسرائيل ناجحة بما فيه الكفاية في وقف التدفّق غير المشروع لأسلحة حزب الله -وهي الأسلحة التي يدّعي الحزب أنها لحماية لبنان، في حين أنها جعلت لبنان على خطر كبير من نشوب الحرب – وإذاً، لربما يعتمد حزب الله على استيراد الأسلحة وتخزينها في مرفأ بيروت على نحوٍ متزايد. وإن كان المرفأ يحتوي على مستودعات يخزّن الحزب أسلحة فيها، فسيصبح بشكل لا يقاوَم هدفاً للتخريب الإسرائيلي، إشعال الحريق الذي قتل العشرات وجرح الآلاف.
لقد ارتبطت مصلحة حزب الله في مرفأ بيروت أولاً بشبكته الاقتصادية، وربما تتضمّن تهريب المخدّرات، أكثر من تهريبه الأسلحة. إنّ الأذرع الاقتصادية للحزب منتشرة، وتمتدّ إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية: وتقوم بتهريب السيارات، وبناء شبكات مستقلة للاتصالات والإنترنت، وما إلى ذلك، بحسب تحقيقات أجريت في تلك البلدان ومحاكمات انعقدت.
ومن خلال تحكّمه الفعّال بمرافئ لبنان أو هيمنته عليها، يخفي حزب الله نشاطاته، ويتجنّب دفع الرسوم والضرائب – وهذا التصرّف الشبيه بأعمال المافيا لا يهمّ إسرائيل بقدر اهتمامها بالصواريخ الدقيقة.
إنّ إسرائيل حاصرت مرافئ لبنان عام 2020، ولم تدمّرها. ربّما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يسعى للفت الأنظار تماماً عن التظاهرات السياسية في القدس، لكن من الأرجح أنّ إسرائيل لا تريد إطلاق حرب ضدّ حزب الله – وخاصة ضدّ شبكاته الاقتصادية، والتي يمثّلها المرفا. وإنّ النفي السريع لتورّطها في الانفجار، لا يمكن التحقّق منه، لكن يبدو ذا مصداقية.
وتطرح نظريات أخرى، أنّ حزب الله أقدم على تفجير المرفأ، كإلهاء قاتل عن النطق بالحكم الصادر في قضية اغتيال رفيق الحريري و21 آخرين، في 14 شباط عام 2005، عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان (STL)، يوم 7 آب، والذي يدين أربعة عناصر في حزب الله. وفي حين أنّ ازدراء الحزب لسلامة المواطنين اللبنانيين موثّق جيداً، لكنها ستكون قفزة كبيرة من مستوى توفير قتلة مأجورين (كما هو مدّعى قبل تأسيس المحكمة الدولية الخاصة بلبنان) إلى تدمير قسم واسع من عاصمة لبنان عمداً، بكلفة إنسانية هائلة. وبخلاف الوفيات التي وقعت في حرب 2006 مع إسرائيل، وهي الحرب التي أثارها حزب الله من طرف واحد، فإن ضحايا هذا الانفجار لا يمكن إلصاق تهمة قتلهم بإسرائيل بسهولة.
أما النظرية الأكثر شيوعاً أنّ حريقاً في عنبر بالمرفأ، أو في مشغل (ربما يحوي ألعاباً نارية)، هو الذي تسبّب بالانفجار الأوّلي، ثم إنّ النيران المشتعلة والحرارة المنبعثة منها، أوقدت مخزون نيترات الأمونيوم في المرفأ. تلك التي تُستعمل كسماد (كمتفجّرات أيضاً). وإنّ الانفجار الأكبر بسبب نيترات الأمونيوم، ألحق الضرر بمبانٍ ودمّر أخرى – وهي بنى نجت من الحرب الأهلية اللبنانية ومن حرب عام 2006 مع إسرائيل – وحطّم نوافذ في كلّ أنحاء العاصمة، وأرسل الآلاف إلى المشافي ممن جرحتم شظايا الزجاج. وقال رئيس الوزراء حسان دياب إنّ حوالى 2700 طنّ من نيترات الأمونيوم، مصادرة من سفينة قبل سنوات عدة، كانت مخزّنة في المرفأ. وللمقارنة، فإنّ الكمّية التي دمّرت مبنى ألفرد إي. موراي الفدرالي في مدينة أوكلاهوما بالولايات المتحدة عام 1995، تبلغ طنّين فقط من نيترات الأمونيوم.
إنّ نظرية حريق العنبر ليست جذّابة كمثل النظريات التي تورّط حزب الله وإسرائيل، لكنها معقولة – وهي منسجمة مع الشعور العام بأنّ لبنان يعاني من تعفّن عميق، ومتفشٍّ. وإذا ثبتت صحّة هذه النظرية، فإنّ الحكومات المتعاقبة – سواء أكانت موالية للغرب أو موالية لدمشق كما هو الحال الآن – هي مذنبة، أو مهملة بالحدّ الأدنى. الإهمال الإجرامي. إنّ أحدهم اتخذ قراراً بوضع نيترات الأمونيوم قرب أهراءات القمح، وكان آخرون واعين للمخاطر على نحوٍ مؤكّد، أو ينبغي أن يكونوا كذلك. الآن، خلال الأزمة المالية، تعرّض مخزون الحبوب في لبنان للتلوّث بسبب التفجيرات، وهو الذي اشتُري بالعملة الأجنبية المتناقصة. وقد تضرّرت الأهراءات، وأضحت غير قابلة للاستعمال.
عندما يُدفن القتلى، ويعالج الجرحى، ستعمّق تفجيرات المرفأ سخرية اللبنانيين ويأسهم من حكومتهم ونظامهم السياسي. إنّ المفروض بحكومة مسؤولة إطلاق التحقيق وطلب المحاسبة. وسيتجاوز الناس الانقسامات السياسية، ويتضامنون لكشف الحقيقة. إنّ تحقيقاً مشروعاً سيلقي الضوء بالضرورة على كيفية تمييز حزب الله نفسه في المرفأ، وكيفية تهرّب الآخرين المتورّطين مدة طويلة من المساءلة العامة، ما أدّى إلى عواقب مميتة.
لكنّ هذه المأساة، هذه الجريمة، وقعت في لبنان، الجنّة المفقودة. وبالنظر إلى المصالح القوية القاضية بالحفاظ على العمليات الخفيّة في المرفأ، وتجنّب المحاسبة العامة، يبدو أنه من غير المحتمل أن تتمتع هذه الحكومة بالجرأة الكافية للقيام بتحقيق صادق – وهي التي تعتمد على دعم حزب الله وحلفائه في البرلمان – أو حتى أيّ حكومة أخرى، وذلك من أجل اكتشاف السبب الذي من أجله تعيش عشرات الأسر في حداد. فليس من المرجّح أن تسلّم هذه الحكومة المدعومة من حزب الله، جهات خارجية للقيام بتحقيق شامل، كما حدث عام 2005 عندما قبل اللبنانيون سلسلة من التحقيقات الدولية بشأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحوّلت لاحقاً إلى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. (في ذلك الوقت، كانت خشية المحقّقين والقضاة اللبنانيين من أن يتعرّضوا للضغوط أو حتى للتصفية. وهذه المخاطر ما زالت قائمة). بدلاً من ذلك، من المتوقّع على نحوٍ محزن أن تقوم شخصيات سياسية لبنانية باستغلال المأساة وتوجيه أصابع الاتهام من أجل تحقيق مكاسب سياسية. وإضافة إلى الأدلة الكثيرة على شلل الحكومة، وعلى ضعفها، وحتى على قابليتها للارتشاء، فمن الصعب تخيّل أيّ تحقيق يجري بحسن نية من قبل السلطات اللبنانية ويكون ذا مصداقية بنظر المواطنين المحاصرين.
إن القتبلة الضخمة في الشاحنة التي قتلت رفيق الحريري عام 2005، دمّرت جزءاً أصغر من بيروت مما جرى في انفجارات هذا الأسبوع. ذلك الانفجار تسبّب بزلزال سياسي بدّل تاريخ لبنان السياسي، مع إجبار القوات السورية واستخباراتها التي احتلت لبنان لسنوات على مغادرته بعد شهرين فقط. (لسوء الحظ، إنّ موالاة الحكومة الحالية لدمشق برهنت على أنّ اللبنانيين نسوا إقفال الباب عندما ترك السوريون لبنان). يأمل المرء بأنّ تثير صدمة 4 آب في المرفأ زلزالاً سياسياً جديداً في لبنان، بما لا يترك أمام السلطات اللبنانية أيّ خيار سوى إجراء تحقيق ذي مصداقية أو – كما في عام 2005 – يجبرها على تسليم مهمة التحقيق إلى جهات خارجية ذات مصداقية. زلزال سياسي يجبر القادة وأمراء الحرب اللبنانيين أخيراً على تنظيف الفوضى الإدارية والمالية التي اختلقوها. لكن هل يتحرّك اللبنانيون بأعداد كبيرة كما فعلوا في عام 2005؟ حتى قبل تدمير جزء كبير من عاصمتهم مع خسائر بشرية مرعبة، عانى اللبنانيون من ذروة الانهيار المالي لبلدهم، ومن انخفاض سعر العملة، ومن فيروس الكورونا، ومن ارتفاع نسب الفقر، وانعدام الأمن الغذائي، وأكثر من ذلك. لا يكاد المرء يلوم اللبنانيين إن سارعوا للعثور على مخرج من بلدهم الذي كان يوماً ما جميلاً، لكنه على ما يبدو بلد محكوم بالفشل.