في الدقائق الأولى كنت مقتنعا أنها هزّة أرضية. للحظات نظرت إلى سقف البيت منتظرا سقوط أجزاء منه. عندما تمكنا من النزول من البناية خوفا من هزّة ارتدادية، نظرت زوجتي إلى الغيوم الحمراء التي يشبه لونها دم العفاريت في الأساطير وهمست بأذني “إنها علامات القيامة”.
من الممكن اعتبارها تجربة افتراضية عن يوم القيامة، لكنها في الحقيقة هي تجربة نووية حيّة أو محدودة، حظي بها الشعب اللبناني دون غيره من الشعوب، وستُسجل كتجربة تُميّزه في تاريخ البشرية.
في القرن الماضي سمعت البشرية بانفجار هيروشيما فقط، وأغلب سكان الأرض شاهدوا الانفجارات النووية فقط في أفلام السينما، باستثناء تجربة عصف نووي سوفياتية مُصورة، بعد أن نجح العالِم النووي السوفياتي أندريه ساخاروف في إنتاج نوعية جديدة من القنابل الهيدروجينية، لكن ساخاروف أنّبه ضميره على اختراعه، فأعلن عصيانه وتمرده على السلطة السوفياتية التي قامت بسجنه لسنوات.
السلطة الحاكمة وصلت إلى ذروة إنكارها وهي الآن أمام مواجهة تاريخ جديد على الأغلب سيشكل الموجة الثانية من انتفاضة 17 أكتوبر
وفي الحديث عن السوفيات وأسلحة التدمير الشامل، تقفز حادثة تشيرنوبيل مباشرة إلى الذاكرة، وتُعيد إنتاج الخوف من الموت الجماعي والكوارث البشرية التي تبقى آثارها لعشرات السنين، لكن ارتدادات تشيرنوبيل لم تقتصر على الارتدادات الإنسانية والبيئية فقط، فالارتداد الأهم لتشيرنوبيل كان سياسيا وبنيَّويا، فقد كشف حجم الاهتراء والإهمال الذي أصاب حتى المؤسسات الاستراتيجية السوفياتية. ويُجمع الخبراء في الشأن الروسي بأن انفجار تشيرنوبيل سرَّع في سقوط الاتحاد السوفياتي. فقد وضعت الحادثة حدا للدعاية الروسية عن عظمة القوة السوفياتية القادرة على السيطرة على الكرة الأرضية تكنولوجيا وعسكريا.
من المستحيل مقارنة لبنان بالاتحاد السوفياتي، لكن الأزمة أن حكام هذا البلد الصغير لم يأخذوا العبرة مما حدث لإمبراطوريات اعتقدت أنها خالدة، حتى لو كان نظام الحكم فيها متماسكا سياسيا وعقائديا، ونجح في تطويع مواطنيه، العبرة من السوفيات أن كارثة غير متوقعة غيّرت مجرى التاريخ، ومهما امتلكت الدولة أو السلطة أو الحزب الحاكم من أدوات قوة تعجز عن تغيير مساره، ففي لحظة الحقيقة يسير باتجاه واحد، وعقارب الساعة من المستحيل أن تعود إلى الوراء.
وفي الرابع من الشهر الحالي اقترب اللبنانيون من فكرة الموت الجماعي، بعدما غامرت سلطة الأحزاب الفاسدة سياسيا وماليا بسلامة العاصمة وخزّنت قنبلة تدمير شامل في مرفق مدني يبعد مئات الأمتار عن الأحياء السكنية، وهذا لوحده يكفي ليس للمطالبة بمحاسبة المقصرين ولكنه يكفي للمطالبة برحيل المنظومة الحاكمة.
حالة الإنكار التي تمارسها الطبقة السياسية اللبنانية وتهربها من تحمل المسؤولية تكاد تكون نسخة مصغرة عن حالة القيادة السوفياتية عندما أبلغتها مملكة السويد بعد يومين من انفجار المفاعل رقم 4 عن ارتفاع نسبة الإشعاع في مناطقها الحدودية مع الاتحاد السوفياتي، لكن السوفيات حاولوا التعتيم والتنكر من تحمل المسؤولية ولم تقم أجهزة الدولة بالحديث العلني عن الانفجار إلا بعد 18 يوما.
تلاشت سلطة الدولة وغاب حضورها في الشارع وخافت من ردّت فعل المواطنين حيث لم يجرؤ ميشال عون، وهو رئيس الجمهورية، على تفقد الأماكن المتضررة في صورة تُشبه إلى حد ما، ما كتبه المؤرخ الأوكراني سيرجي بلوخي في كتابه “تشيرنوبل: تاريخ كارثة نووية 2018″، أن الرجل الأقوى في الاتحاد السوفيتي بذلك الوقت لم يرَ ضرورة لإيقاظ الزعماء السياسيين الآخرين، أو قطع عطله لنهاية الأسبوع بجلسة طارئة، فقد اكتفى بإنشاء لجنة حكومية برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء بوريس شربينا، للتحقيق في أسباب الانفجار، وفي الوقت نفسه، كان المواطنون في خطر، لكن لم يجرؤ أحد على طلب الإخلاء”.
حالة الإنكار التي تمارسها الطبقة السياسية اللبنانية وتهربها من تحمل المسؤولية تكاد تكون نسخة مصغرة عن حالة القيادة السوفياتية
في السنوات الـ 15 الأخيرة من عمر الاتحاد السوفياتي تغلغلت مافيا الدولة المنظمة في مفاصل السلطة وتحكمت في مفاصل القرار وخصوصا الاقتصادية، لدرجة أن صحيفة ليتراتورنايا غازيتا في افتتاحيتها بتاريخ 20 يوليو 1989 قالت: “ليست المافيا صورة جميلة، إنها واقع، إنها مرض كنا نفكر منذ عهد قريب وبخفة أنه من غير الممكن أن يهدد مجتمعنا”. والحقيقة أن ما يمكن تسميتها بالمجتمعات السوفياتية لم تزل تدفع حتى الآن ثمن الأمراض التي تسببت بها مافيا الدولة المنظمة وهذا ما يتعرض له الشعب اللبناني الآن من خلال سلطة مافيوية تسيطر على قرار الدولة.
عودة على بدء، إلى الاختبار النووي. إن السلطة الحاكمة وصلت إلى ذروة إنكارها وهي الآن أمام مواجهة تاريخ جديد على الأغلب سيشكل الموجة الثانية من انتفاضة 17 أكتوبر، ولكن هذه المرة تتجه أنظار العالم نحو بيروت التي باتت تحت المجهر الدولي، وأي تلاعب في التحقيقات أو في تغطية الجُنات أو في ممارسة القمع ضد المتظاهرين لن تمر دون موقف دولي صارم، فالمجتمع الدولي سحب اعترافه شبه النهائي بالسلطة، والشعب أقرب إلى الإعلان عن حرب تحرير الدولة.