كان من المفترض أن يتوجه اليوم الخميس رئيس التيار الوطني الحر في لبنان جبران باسيل إلى باريس، وكانت أوساطه قد أشاعت أنه بصدد لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليبحث معه تشكيل الحكومة، لكن وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، قطع الطريق عليه في خطبة نارية ألمح بها إلى أن باسيل هو المسؤول الرئيس عن الاستعصاء اللبناني، ولوح بعقوبات تشمله مع غيره من السياسيين اللبنانيين.
والحال أن فرنسا، وغيرها من دول العالم تأخرت كثيراً قبل أن تباشر مخاطبة الزمرة الحاكمة في لبنان بلهجة التقريع هذه، وهي إلى الآن لم تقرن هذه اللهجة بخطوات عقابية فعلية. فالمشهد في لبنان جلي ولا يقبل اللبس، والسياسيون يجاهرون أمام العالم بفسادهم، وباريس لا تحتاج إلى وقت لكي تدقق بما ارتكبوا، وللتأخير أثمان يدفعها اللبنانيون كل يوم، ولودريان تأخر منذ جاء رئيسه إلى لبنان ونال في أعقاب انفجار المرفأ في 4 أغسطس، وعداً بتشكيل حكومة من غير السياسيين الفاسدين، ومر ثمانية أشهر على ذلك ولم تتشكل الحكومة، وما زال السيد ماكرون ينتظر!
ثمة شيء محير في تعامل العالم مع “الدولة اللبنانية”، ذاك أنه من المفترض أن يكون هذا العالم قد خلص إلى أنه حيال عصابة سرقة بالمعنى الحرفي للكلمة، عصابة مُثبتة أفعالها الجرمية بالمعنى القانوني للكلمة، ومن المفترض أن تخاطب عبارة “قانوني” حساسية دأبت دول محترمة على جعلها شرطاً لاستئناف علاقاتها مع كيانات حقوقية وسياسية وشخصية! كيف تستقبل باريس جبران باسيل؟ باريس صاحبة هذا الماضي القانوني، وذات التاريخ المرتبط بالحقوق العامة والخاصة، تستضيف جبران باسيل وتتفاوض معه على شروطه لتسريع تشكيل الحكومة، لا سيما وأن المعلومات تقول أن الإليزيه كان على استعداد لاستقبال باسيل اذا ما وعد بأن الحكومة ستتشكل، وأن الجواب كان أنه لا يستطيع أن يعطي وعداً بذلك! فرنسا بفعلتها هذه تقول للبنانيين إن هذا الرجل يمثلكم! لكن الأهم أنها تقول للفرنسيين إن دولتهم يمكن أن تتعامل مع أمر واقع يتمثل في مفاوضة رجل متورط بالفساد في بلاده!
كيف يسافر في أصقاع الأرض رجل مثل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. هذا الرجل مسؤول عن أكبر عملية سطو في التاريخ. وهذا الرجل يخالف القانون كل يوم آلاف المرات. ففي كل مرة يتوجه فيها لبناني إلى المصرف ليطالب بوديعته ويرفض المصرف اعطاءه إياها يكون رياض سلامة وعصابة أصحاب المصارف قد خالفوا القانون لمرة، وما علينا إلا أن نحصي المرات التي تحدث فيها هذه الواقعة يومياً لنحصل على عدد المرات التي خالف فيها سلامة القانون.
العالم إذ يتيح لسعد الحريري السفر وهو يعرف أنه يحرم موظفي مؤسسات أبيه من حقوقهم القانونية، يكون كمن يبيح لسعد أن السطو على حقوق الناس من اللبنانيين الذين تركهم رئيس الحكومة السابق من دون حقوقهم في وقت ينعم هو بثروته.
الوقائع التي تكشفهم مذهلة. هم أصلاً لا يخجلون بفعلاتهم، ويرددون ذلك على الملأ. يقولون نحن لصوص، وافعلوا ما تستطيعون فعله. الفظائع التي نرتكبها استنفدت وقعها، وها نحن نواصل ارتكابها بعد أن صارت فعلاً عادياً.
العالم متواطئ مع هؤلاء، وإلا لما أتاح لهم ما يتيحه لهم اليوم. لبنان اليوم كيان موبوء ورائحة الفضائح تعمي العيون. وراء كل خطوة فضيحة، والسياسيون فيه ينعمون باعتراف دولي، وهذا الاعتراف يعني أيضاً اعتراف باقترافاتهم. حين يزور جبران باسيل فرنسا، فهذا يعني أن الفساد اللبناني سيمس الفرنسيين، تماماً مثلما مست التحويلات المالية لحاكم مصرف لبنان وشقيقه ومعاونته إلى البنوك السويسرية النظام المصرفي السويسري. الفساد صار هناك في سويسرا، ولهذا السبب تحرك القضاء السويسري، ولنفس السبب تحرك القضاء البريطاني.
العالم كله يعرف أنهم وراء انفجار مرفأ بيروت الذي دمر ثلث العاصمة، ويعرف أن ثرواتهم متراكمة في المصارف الأوروبية، ويعرف أنهم سطو على مدخرات المواطنين، ويعرف أنهم يسرقون المساعدات التي يرسلها، ويعرف أنهم يدعمون نظام الجريمة في سوريا، ويقاتلون إلى جانبه، وعلى رغم كل هذه المعرفة يواصل الاعتراف بهم واستضافتهم ويواصل أيضاً حماية ثرواتهم! أليس في ذلك ما يدفع إلى التساؤل؟
يجب نقل الوجهة التي نخاطبها من حيزها الرسمي إلى الحيز الشعبي. ايمانويل ماكرون يعرف كل شيء ويواصل مهمته معهم، ولكن هل يعرف الفرنسيون ذلك؟ هل يعرف السويسريون أن في خزنات مصارفهم مدخرات شعب بأكمله جرى سطوها تحت أنظار سفارتهم في بيروت، وتحويلها إلى جنة السرية المصرفية في جنيف؟
هذا الخبر لبنان الموبوء في خزنات البنوك السويسرية ظهر أولاً في Cedar News.