لم يسبق للصراع حول التموْضع الإقليمي للبنان، أن اكتسب هذه الأبعاد الخطرة التي باتَ معها «الوطنُ الصغيرُ» في عيْنِ المواجهة الأميركية – الإيرانية الكبرى وسط «تَوازُنٍ سلبي» يحكم واقعَه مع دخول واشنطن ودول غربية وعربية على خط رفْع «البطاقة الحمراء» أمام التحوّل الكاسِر للتوازنات الذي شكّله إمساكُ «حزب الله» بكل مفاصل القرار اللبناني، وهو ما كانت آخِر تجلياته «حكومة اللون الواحد» التي يترأسها حسان دياب.
ولم يكن ممكناً قراءةُ الحُكْمِ الذي أصْدره قاضي الأمور المستعجلة محمد مازح بـ«منْع أي وسيلةٍ إعلاميةٍ لبنانية أو أجنبية تعمل على الأراضي اللبنانية من إجراء أي مقابلةٍ مع السفيرةِ الأميركية (دوروثي شيا) لمدة سنة»، من خارج هذه المواجهة التي كان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله رَسَمَ قبل أسبوعين مسْرحَها الجديد بملاقاة «قيصر» الأميركي حين حدّد مساراً يُفْضي لاقتياد لبنان إلى أجندته بالتصدي لهذا القانون تحت عنوان «إلى الشرق دُر»، وخصوصاً نحو إيران، في معرض تقديم «بدائل عن الدولار»، رافعاً بوجه معادلة «إما الجوع أو سلاحنا»، التي اتّهم واشنطن بإرسائها، تهديدَ «سنقتلك».
وغداة القرار الذي جاء على خلفية تصريح لـ شيا اتّهمت فيه «حزب الله» بأنه «بنى دولة داخل الدولة استنزفت لبنان، ودويلته كلّفت الدولة اللبنانية مليارات الدولارات»، شخصتْ الأنظارُ على الأضرار البليغة لهذا التطور غير المسبوق والذي اعتُبر مخالفاً لالتزامات بيروت بموجبات اتفاقية فيينا الديبلوماسية ومناقِضاً لأحكام القانون الدولي وتطاولاً على حرية الإعلام في «بلاد الأرز»، على ما تبقّى من سمعةٍ للبنان الرسمي، ناهيك عن ارتداداته على صعيد تعميق «خطوط الانقسام» الداخلية على خلفية الاستقطاب القديم – الجديد حول الموقع الاستراتيجي للبلاد والذي استعيد بوضوح مع «حُكْم العَجَلة».
وأبدت أوساطٌ واسعة الاطلاع مخاوف كبيرة من المنحى الذي عبّر عنه هذا التطور السياسي بـ «لباسٍ قضائي» وخصوصاً لجهة محاولة «حزب الله» جرّ السلطة إلى الصفوف الأمامية لمواجهةٍ ديبلوماسية مع واشنطن حدّد خطوطها العريضة بلسان نائبه حسن فضل الله، الذي اعتبر أن تصريحات شيا «اعتداء سافر على سيادة بلدنا، والسلطات اللبنانية وفي مقدمها وزارة الخارجية مدعوة لتحرك فوري لإلزام هذه السفيرة باحترام القانون الدولي، لأن سلوكها العدواني تجرؤ وقح على الدولة».
وإذ اعتبرت الأوساط أن هذا «التحرّش» القضائي – السياسي بالسفيرة يشكل امتداداً لـ«المعركة» التي يخوضها الحزب لمنْع تَكوُّن «قناعة جَماعية» حول مسؤوليته عن إيصال لبنان إلى هذا الدرك من الانهيار المالي – الاقتصادي – الاجتماعي، وفق ما تظهّره واشنطن ودول عربية وغربية ترى أنه استرهن لبنان لمشروعه الإقليمي، عبّرت عن الخشية من تداعيات هذا المنزلق الجديد في الوضع اللبناني الذي لم يعُد الإعلام العالمي يتناوله إلا من زاوية اقتحامه يومياً «لائحة البؤساء» في العالم ربْطاً بانسحاق الليرة أمام الدولار.
ولاحظتْ الأوساط نفسها تَسابقاً برز أمس بين مساريْن:
- الأول مسارٌ حكمه تخبُّط رسمي في كيفية تَلَقُّف هذه «القنبلة»، وسط إصرار شيا على تأكيد أنها تلقت اعتذاراً من مسؤول حكومي رفيع المستوى، لم تسمّه، أكد أن إجراءات ستُتخذ للعودة عن هذا «القرار غير الملائم»، في مقابل «صمتٍ» حكومي، بل تنصُّل أولاً من وزيرة الإعلام منال عبدالصمد التي كانت رفضت الحُكم من زاوية مساسه بحرية الإعلام، مؤكدة «المسألة مع السفارة الأميركية يهتم بها وزير الخارجية وهناك توضيحات واستيضاحات مع السفارة ولا اعتذار»، ثم من نائبة رئيسة الحكومة زينة عكر التي نفت أي دور لها في هذا «الاعتذار»، في موازاة إرباكٍ في أداء الخارجية التي أكد وزيرها ناصيف حتي، أنه استدعى شيا اليوم، نافياً في الوقت نفسه أن يكون أدلى بتصاريح حول ما سيبلغها به بعد تقارير أشارت إلى أنه سينقل إليها أنه «وفق اتفاقية فيينا لا يجوز لسفير أن يتدخّل بالشؤون الداخلية لبلد آخَر».
ولم يقلّ تخبّطاً التعاطي القضائي مع هذا الملف وسط معلومات أكدت أن التفتيش القضائي استدعى مازح، في موازاة إعلان النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات أنه لم يطلب إحالة القاضي على التفتيش «وعلى كل حال يمكن للتفتيش أن يتحرك عفواً».
وكان مازح أعلن بعد تقارير أشارت إلى إحالته من عويدات على التفتيش بتهمة خرق المادة 95 التي تتّصل بأهلية القاضي لممارسة مهامه «أنني لم أتبلغ أي شيء يتعلّق بهذا الأمر وبحال كان صحيحاً فإنني وقبل إحالتي على التفتيش بسبب قرار أصدرتُه وأنا مرتاح الضمير وكامل القناعة أقدم طلب إنهاء خدمتي في القضاء على أن أتقدّم به رسمياً الثلاثاء (غداً)». - والمسار الثاني عبّر عنه تَعمُّد شيا الإطلالة في أقلّ من 24 ساعة عبر العديد من وسائل الإعلام اللبنانية، كما عبر قناة «الحدث»، كاسِرة وبإسنادٍ من الإعلام في بيروت، الحُكم الذي وصفته بـ«الجنون الذي لم أتوقعه» بسبب الإطلالة التلفزيونية (عبر «الحدث» الجمعة)، مؤكدة أن «تقييد الإعلام يحدث في إيران وليس في بلد كلبنان»، ومعلنة «سيكون للبنان نقطة سوداء على سمعته بعد ما حصل أمس».
أضافت: «عندما ذكرت أن كلام نصرالله التهديدي غير لائق وهجومي، ربما شعر حزب الله بالتهديد لأنني سلطت الضوء على أفعاله التي أثّرت على الأزمة الاقتصادية، وهم يحاولون الإلهاء وإسكات الإعلام في بلد معروف بحريته وهذا أمر مثير للشفقة».
وحول ما إذا كانت تعتبر أن القرار صدر بالنيابة عن «حزب الله»، ردت: «أعتقد أن ذلك يمثّل تصعيداً. وهذا التصعيد حصل سابقاً مع الخطاب الناري لنصرالله والذي تناول فيه مواضيع كقتل الناس، وهي أمور غير لائقة تصدر عن شخص يقول إنه زعيم ديني»، داعية «لاجراء نقاش حضاري».
ولم يمرّ هذا الملف من دون مواقف داخلية بارزة تصدّرها انتقادٌ من البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي أسف للحُكْم «المستغرب الذي يمنع شخصية ديبلوماسية تمثل دولة عظمى من حق التعبير عن الرأي، ويمنع جميع وسائل الإعلام من إجراء أي مقابلة معها، كما أسفنا واستغربنا أن يصدر في يوم عطلة وخلافاً للأصول القانونية، مشوّهاً هكذا صورة القضاء، ومخالِفاً للدستور، وناقضاً المعاهدات الدولية والاتفاقات الديبلوماسية».
كما برز هجوم للزعيم الدرزي وليد جنبلاط معلناً في تغريدة «نارية»: «يا لها من فوضى. القضاء يبدو وبعد تعثر التشكيلات يسير على خطى المهداوي كمقدمة لنظام شمولي. وفي الخارجية فإن الوزير يذكّرنا بوليد المعلّم. وفي المالية مدير نافذ يعبث بالأرقام لتفشيل الحوار مع الهيئات الدولية. وفي الإدارة عسس من المستشارين الحاقدين». - الراي- وسام ابو حرفوش وليندا عازار