رغم خطورة الأوضاع المعيشية في وطن العذابات المتراكمة، خطفت مواقف بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للموارنة بشارة الراعي الأضواء، وفرضت نفسها كواحدة من أهم الأحداث السياسية التي تحصل في لبنان، وقد وصلت صرخة الراعي الى هذه الحدود المتقدمة بعد أن تدرجت مواقفه على شاكلة لافتة منذ فترة، وتحديدا بعد لقائه رئيس الجمهورية في 12 يونيو، وقيل وقتها انه نقل تحذيرا واضحا للرئيس عن خطورة ما يجري، خصوصا منها تداعيات تدمير القطاعات التي يرتكز عليها لبنان، أي المصارف والتعليم والاستشفاء والسياحة.
تذكر مواقف الراعي بدور سلفه البطريرك الراحل نصرالله صفير في مطلع الألفية الثانية، ذلك أن صفير استشعر خطرا محدقا على الكيان اللبناني عندما تم فرض أميل لحود رئيسا للجمهورية، فأطلق مع المطارنة نداء بكركي في 20 سبتمبر 2000، وطالب فيه بخروج الجيش السوري من لبنان، ولاقاه في تأييد المطلب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ومن ثم الرئيس رفيق الحريري الذي دفع دمه ثمنا لخياره الاستقلالي. وقد انسحبت القوات السورية في 26 ابريل 2005 مجبرة تحت ضغط هذه المواقف التي كانت تحظى بتأييد مئات الآف اللبنانيين، لأن ارتباط رئيس الجمهورية بالكامل بطرف داخلي او خارجي لا يتحمله لبنان ولا بكركي التي كانت على الدوام في مقدمة المدافعين عن استقلال لبنان وسيادته.
مع مرور 100 عام على إعلان لبنان الكبير، يبدو الوطن مهددا بالزوال، وشعبه في حيرة غير مسبوقة، يئن تحت ضغوط الخوف والفقر والعوز، وفقد ثقته بالدولة التي تركته أعزل في مواجهة الجوع، وسرقت منه كل الآمال بالمستقبل، بينما سدة رئاسة الجمهورية التي تحظى على الدوام بحماية بكركي التي تمنع عنها السقوط أمام الغضب الشعبي في الشارع، غائبة عن سماع الهموم، او أنها لا تقدم الحد الأدنى من العلاج لمداواة أوجاع اللبنانيين. والرئاسة اليوم لا تتمتع باستقلالية في قرارها الوطني الحر، والشرعية محاصرة من قوى خارجية ومحلية، طالب الراعي عون بالعمل على فك أسرها.
ما يسمعه اللبنانيون من الراعي منذ اسبوعين يختلف تماما عن العظات السابقة، ومواقفه تتطور على شاكلة ثابتة باتجاه يعطي انطباعا واضحا عن خوف بكركي على الكيان اللبناني، وهي تحمل نقدا لاذعا للمسؤولين ولا تستثني الرئاسة، التي يجب أن تتطلع لما فيه مصلحة الشعب، وخلاص لبنان فقط. ويرى الراعي أن أول مداميك هذه المصلحة: تحييد لبنان، والحياد يحميه ويقويه ويساهم في استقرار المنطقة برمتها، مضافا الى هذا الحياد التزام صريح بالشرعية الدولية وتنفيذ قراراتها دون استثناء. تراهن مرجعيات وطنية مختلفة على هذا التطور الكبير في موقف بكركي، وتثني على خطابها المتصاعد أسبوعا بعد أسبوع في المنحى السيادي الرافض أن تكون مؤسسات الدولة الدستورية رهينة لسياسات محاور اقليمية او فئوية تحرم لبنان من صداقاته الخارجية، ومن مساعدة أشقائه العرب له في أزمته المالية الخانقة.
من المؤكد أن التركيبة الحالية للسلطة سقطت سقوطا مدويا، ولبنان يحتاج الى إعادة بناء شاملة، لأن أسباب الأزمة المالية والاقتصادية، سياسية بالدرجة الأولى، وفشل بإدارة الدولة بالدرجة الثانية، ولابد من إحداث تغييرات جوهرية على المقاربات السياسية «الممانعة» ومنها تحرير الدولة من قبضة بعض الصبية والأشرار والشتامين المشكوك بولائهم الوطني. وطلب التغيير كان أهم شروط الرئيس سعد الحريري لعودته لترؤس حكومة إنقاذ جديدة، ومن أبرز هذه الشروط الاتفاق المسبق على البيان الوزاري، على أن يعتمد حياد كامل في سياسة لبنان الخارجية، والتزام بالشرعيتين العربية والدولية، ورفض عودة التمثيل الوزاري الحزبي الفاقع، وإبعاد كل الذين تشملهم العقوبات والذين فشلوا في ملفاتهم التي تتعلق بمعيشة الناس.
الانباء – د. ناصر زيدان