تقييد المدخرات يرهن مستقبل طلاب لبنان في الخارج

رهنت الأزمة الاقتصادية الحادة في لبنان مستقبل الطلاب في الخارج حيث تسبب تقييد البنوك لمدخرات العائلات ومنع التحويلات في تقويض القدرة على سداد أقساط الدراسة في ظل تلكؤ الحكومة في تنفيذ قانون سابق يقضي بإلزام المصارف بتحويل مبلغ لا يتجاوز عشرة آلاف دولار لكل طالب جامعي.

بيروت – وجد الآلاف من الطلاب اللبنانيين في الخارج أنفسهم مهددين بعدم استكمال دراستهم بسبب عدم سداد أقساطهم الجامعية جراء تقييد المصارف لتحويلات العائلات مما دفع عددا منهم إلى مقاضاة البنوك غير أن ذلك لم يكن ناجعا مع ميل المصرف إلى استئناف الدعاوى القضائية.

فقبل أكثر من ثلاث سنوات توجّه محمّد سليمان إلى بيلاروسيا لتحقيق حلمه بدراسة الطب، لكنّه لم يتوقّع يوماً أن أزمة اقتصادية في لبنان ستجعله مهدداً بالطرد مع عجز عائلته منذ أشهر عن تحويل الأموال لدفع الأقساط الجامعية.

ويقول الطالب البالغ 23 عاماً في تصريحات صحافية عبر الفيديو من داخل غرفته في مينسك “إذا طردوني من الجامعة، فهذا يعني أنّ مستقبلي ضاع.. وسيكون الحقّ على الدولة اللبنانية”.

ويعد محمّد عينة من الآلاف من الطلاب اللبنانيين الذين يتابعون تحصيلهم الجامعي في الخارج بدعم من عائلاتهم التي أرادت أن تضمن لهم مستقبلاً لائقاً. لكنّهم يجدون أنفسهم منذ خريف العام 2019 عاجزين عن دفع أقساطهم أو بدلات إيجار سكنهم جراء قيود مشددة فرضتها المصارف شملت منع التحويل إلى الخارج.

ورغم الاعتصامات الدورية التي ينفذها الأهالي أمام المصارف وقطعهم الطرق احتجاجاً، ورغم إقرار البرلمان العام الماضي قانوناً يلزم المصارف ولمرة واحدة بتحويل مبلغ لا يتجاوز عشرة آلاف دولار لكل طالب جامعي خارج لبنان وفق سعر الصرف الرسمي للدولار، يؤكد الأهالي والطلاب في الخارج أن القانون بقي حبراً على ورق.

واختارت قلّة من الأهالي مقاضاة المصارف لتحويل مبالغ من أموالهم المحتجزة إلى أبنائهم.

وخلال الشهر الماضي ظهر اسم محمّد على لائحة مع طلاب لبنانيين آخرين مهددين بالطرد ما لم يدفعوا الأقساط المترتبة عليهم. ولا يملك اليوم أدنى فكرة عمّا يجدر فعله فيما مدخرات والده محتجزة في المصرف، شأنه في ذلك شأن اللبنانيين جميعهم.

وروى العديد من الطلاب أنهم اضطروا للانتقال إلى شقق أصغر أو العمل بدوام جزئي أو الاقتصاد في وجبات الطعام، للتخفيف من المصروف والمساهمة في دفع تكاليف سكنهم وتعليمهم. وتحدث أحدهم عن بعض الأهالي الذين اضطروا لبيع سياراتهم ومدخراتهم من الذهب لمساعدة أبنائهم.

ويتحسّر محمّد على أيام كان والده يرسل إليه شهرياً مبلغاً يتراوح بين 400 و500 دولار، يمكنه من دفع إيجار الشقة وارتياد المطاعم والعيش كما يحلو له. أما اليوم “بالكاد يرسلون 300 دولار” بعد شرائها من السوق السوداء.

وبات اليوم يعاني من صعوبة في التركيز خلال دروسه لقلقه مما ستحمله الأيام المقبلة، ويقول “لا أعرف ماذا سأفعل”.

ومن جنوب لبنان يتحدّث موسى سليمان والد محمّد بإسهاب عن تظاهرات ووقفات احتجاجية شارك فيها خلال الأشهر الماضية لمطالبة السلطات بإيجاد حلّ لازمة الطلاب في الخارج من دون جدوى.

ويشرح معاناته لتوفير المبلغ الذي يرسله شهرياً الى مينسك، بعدما بات المدخول الذي يجنيه من محل بيع الألعاب وأدوات التجميل الذي يملكه غير كاف مع فقدان الليرة اللبنانية قرابة 85 في المئة من قيمتها أمام الدولار في السوق السوداء.

ويقول الرجل (48 عاماً) وهو أب لثمانية أطفال في تصريحات صحافية “أنا قلق للغاية.. ولا أعرف ماذا سأفعل، سأضطر الى استدانة المال مجدداً، لا يمكنني أن أتركه من دون مال، فهو شاب وحيد هناك ولا أحد يساعده”.

وعلى غرار أولياء أمور الطلاب في الخارج يحمّل موسى الطبقة السياسية، التي لا تبالي بمطالبهم، المسؤولية عن معاناة أبنائهم. أما المصارف، حيث مدخراتهم، فلا تكفّ عن طلب مستندات وأوراق من دون خطوات ملموسة.

ويقول موسى “يأخذون الطلبات ويرمونها في الأدراج لأنه ما من أموال لديهم لتحويلها. هم سرقوا أموال الناس”.

ويدرس موسى مع أولياء أمور آخرين إمكانية تقديم دعوى قضائية في حق المصارف التي يودعون أموالهم فيها، خصوصاً بعدما ربحت عائلات بعض الدعاوى كان آخرها الشهر الماضي.

وقضى الحكم في القضية بالحجز الاحتياطي على عقار تابع لأحد المصارف في مدينة النبطية، تأميناً لدين أحد المودعين لديه طلب تحويل دولار طالبي من حسابه الى حفيده الطالب في بيلاروسيا.

ويعمل الاتحاد الدولي للشباب اللبناني، وهو تجمع يضم طلاباً يدرسون في عشرين دولة، مع محامين متطوعين من أجل تقديم العشرات من الشكاوى القضائية.

لكن المدير التنفيذي للمفكرة القانونية والمحامي نزار صاغية يوضح أن عدد الأحكام التي صدرت لا يتخطى أصابع اليدين، مشيراً إلى أن “المشكلة في تطبيق الأحكام مع ميل المصرف إلى الاستئناف”.ومع تفشّي فايروس كورونا وتخفيف عدد الجلسات في المحاكم يصبح الوضع “أكثر تعقيداً” وهو ما “تستفيد منه المصارف حتى تؤخّر توفير الأجوبة على الطلبات”، وفق صاغية الذي يشير أيضاً الى امتناع عائلات كثيرة عن مقاضاة المصارف خشية إقفالها لحساباتهم.

وفي إيطاليا تتقاسم رين قسيس (20 عاماً)، طالبة الهندسة الميكانيكية مع زميلتيها اللبنانيتين مصروف الشقة. وتقول لوكالة فرانس برس “ليس بإمكاننا تناول ثلاث وجبات، نؤخر الفطور قليلاً إلى وقت الغداء، ثم ندرس حتى يحين موعد العشاء”.

الطلاب اضطروا للانتقال الى شقق أصغر أو العمل بدوام جزئي، للتخفيف من المصروف ودفع تكاليف سكنهم وتعليمهم

وتتلقى رين دعماً محدوداً من جهات إيطالية، لكن ذلك لم يحل دون استدانة والدها المال لتحويله إليها ومن دون عودة شقيقها من أوكرانيا، حيث كان يدرس، إلى لبنان لمتابعة دروسه عبر الإنترنت بسبب عدم قدرة العائلة على تكبّد كلفة سكنه.

ويقول موريس قسيس (54 عاماً)، والد رين، “عملت لأعلّم أولادي حتى لا يعانوا مثلي”.

فبعد تقاعده من السلك العسكري نال موريس وهو من مدينة زحلة (شرق) تعويضاً عن نهاية الخدمة، كان يكفيه لإتمام ولديه لتعليمهما في الخارج. لكن القيود المصرفية منعته من التصرّف في أمواله. ومع التدهور الهستيري في سعر الصرف فقد قيمة راتبه التقاعدي. ولم يعد يبقى له منه بعد تسديد قرض المنزل إلا ما يعادل خمسين دولاراً.

ويسأل بسخط “كيف سأعلّم أولادي؟” متوجهاً لولديه بالقول “رتّبا مستقبلكما في أيّ بلد أجنبي، لأن ما من مستقبل هنا”.

واعتاد لبنان أن يفخر بنظام التعليم فيه، وكانت البعثات التبشيرية الأميركية والفرنسية قد أقامت مدارس وجامعات في القرن التاسع عشر أصبحت منصات لدفع الطلبة اللبنانيين إلى استكمال دراساتهم في الخارج، وهو ما أصبح الآن حلما صعبا للجميع باستثناء الأثرياء الذين تمكنوا من الاحتفاظ بما يكفي من ثرواتهم خارج لبنان.

ويواجه بعض الطلبة صعوبات في تلبية احتياجاتهم حتى في دول منخفضة التكاليف نسبيا مثل روسيا.

ويكافح اللبنانيون ممن يدرسون في الجامعات الأجنبية في بيروت ضغوطا غير مسبوقة لاسيما بعدما رفعت جامعتان خاصتان، وهما الجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية – الأميركية، سعر الصرف للرسوم الدراسية إلى 3900 ليرة للدولار في ضربة تزيد من قيمة الرسوم بمقدار ثلاثة أمثال تقريبا على الطلاب الذين يدفعون بالعملة المحلية.

هذا الخبر تقييد المدخرات يرهن مستقبل طلاب لبنان في الخارج ظهر أولاً في Cedar News.